من الجمل الأثيرة لدينا جملة «شوفى اليابان بقت إزاى» بِنُسَخِهَا المختلفة، يعنى ممكن نشيل اليابان ونحطّ كوريا الجنوبية أو البرازيل أو غيرها من الدول. لكن تعالى اتكلمى عن التفاصيل، تعالى قولى إزاى هنبقى زى اليابان، تلاقى إننا فاهمين الموضوع فى اتجاه تانى تماما. وإننا عايزين نبقى زى الدول دى بس من غير ما نشوف الدول دى عملت إيه علشان تبقى فى اللى هى فيه. من أول التعامل مع عقيدتها الدينية، أيوه اليابان عندها عقيدة دينية كانت بتحكم سياستها وطريقة اتخاذ القرار فيها، وتسببت فى كوارث فى الحرب العالمية التانية. ومن غير ما نشوف السياسات اللى دول اتخذتها علشان التنمية والتعامل مع مشكلاتها.
إحنا مثلا فاكرين إننا ممكن نتقدم فى حين الدولة بتدفع ربع ميزانيتها أجورا لموظفين لا يؤدون خدمات تستحق هذا الأجر، وعندها برنامج دعم ضخم ومكلِّف، وعندها مشكلات تشريعية فى العلاقة بين الملَّاك والمستأجرين، وعندها مشكلات فى تنمية المناطق العشوائية؟ فاكرين إننا ممكن مع دا يكون عندنا ميزانية أحسن للتعليم أو للصحة؟!
الموضوع مش بس قرارات اقتصادية لا بد منها، الموضوع كمان تناقض رئيسى عند مسيسين، تناقض فى فهم دور الدولة، وتناقض فى فهم دور المواطنين.
بعض المطالبين بالديمقراطية، مش واخدين بالهم إنهم بيدعوا سياسيًّا لاضطلاع الدولة بأعباء أكتر، وتحمل مسؤوليات اجتماعية وإعاشية أكبر. مش دى نقطة نقاشنا. النقطة اللى باحاول أشير إليها هنا هو مدى اتساق تلك الدعوة مع توجههم السياسى. يعنى إزاى بيتخيلوا إن دولة تملك «أجور» ملايين العاملين، وتتحكم فى رفاههم، هتكون ديمقراطية. ما هى أكيد هتكون دولة مركزية متحكمة وغالبا فاشلة اقتصاديا برضه بسبب عدم توفر ميزانية كافية. أو على الأقل دولة عرجاء تشريعيا، لأنها عايزة تضمن ميزات تنافسية لنفسها. الديمقراطية مرتبطة ارتباطا وثيقا بتنوع النفوذ الاقتصادى، وبالتحرر من سيطرة الدولة. مرتبطة ارتباطا وثيقا بعلاقة واضحة بين أصحاب الأعمال وأصحاب الأجور من العاملين أو المستأجِرين، علشان نشجع الاستثمار الأهلى.
نيجى للمواطنين. المواطنون اللى مَثَلهم الأعلى بلطيَّة العايمة مش مواطنين هيعملوا اليابان. لأن الحراك الاجتماعى مرتبط بقيم الحراك الاجتماعى. وأهمها السعى إلى تحسين الوضع، والقدرة على مقارنة القيمة المعنوية بالقيمة المادية. بدلا من سعادة التمرمغ فى الطين، واعتبار ذلك قيمة مطلقة تستحق المدح لذاتها، الإنسانة بتبيع بيتها القديم لو زادت قيمته علشان تنتقل إلى بيت أحسن، والفقراء بيستغلوا ارتفاع قيمة المنطقة اللى عايشين فيها علشان يبيعوا بيوتهم وينتقلوا إلى بيوت أفضل. وعلشان الأولاد يدخلوا مدارس أفضل. أو يلاقوا فائض أموال يعينهم على فتح مشروع. والمنطقة نفسها بتتحسن من ناحية الخدمات والطرق وفرص الاستثمار وفرص العمل، ناهيك بالناحية الجمالية. كل دى تصرفات أنفع وأنسب لحياة المدينة من التمرمغ فى الطين، والتضخيم المبالَغ فيه لقيمة الذكريات.
طبعا بلطية العايمة لازم تكون بطلة، وعلشان تكون بطلة لازم «رجل الأعمال» يكون مؤذيًّا. ودى نقطة تانية فى طريق «نبقى زى اليابان». لأننا مش هنبقى زى اليابان إلا بالمستثمرين. والمستثمرون ركيزة من ركائز بناء أى مجتمع. بيوفروا فرص شغل، وبيوفروا منافذ للأفكار. زيهم زى أى فئة منهم النافعون ومنهم الفاسدون. إنما الفساد مش قرين للاستثمار، بالعكس، الاستثمار معناه مزيد من التنافس، ودا معناه مزيد من العيون المفتوحة ضمانا لحقوقها، ودا اللى بيوصل لسلوك أفضل فى المراقبة. لكن دا مش هيحصل لو كان الشائع نظرة بلطية العايمة. ودا اللى حاصل فى مصر.
اللى حاصل فى مصر إننا بننفخ فى قيم الثبات، الثبات على المبدأ، الثبات على الأرض. بغضّ النظر الثبات فى موقف ما هيكون نافع ولّا لأ. أنا طبعا طلعت دلوقتى من حالة بلطية العايمة، اللى -زى ما شفنا- كانت مظلومة، واتقدمت فى الفيلم بظروفها دى. فبلطية شخصية خاصة بظروفها وطبيعتها. لكن دلوقتى باتكلم على الحالة العامة. على الصفة اللى بتيجى فى راسك لما تسمعى كلمة «رجل أعمال» أو «سيدة أعمال».
فى المجتمعات اللى هتبقى زى اليابان الكلمة دى معناها قيم النجاح، والعمل الدؤوب، والمخاطرة، والرؤية الصائبة القادرة على تحقيق مكسب، ومعناها مُثُل عليا كتير من الشباب نفسهم يقتدوا بيها. أما فى مجتمعات بلطية العايمة فالقيمة العظمى قيمة «أن نبقى زى ما احنا». تصفيق حاااااااد.
ملحوظة: المقال دا مش عن فيلم «بلطية العايمة»، لا سينمائيا ولا اجتماعيا ولا أخلاقيا. إنما عن وعى ملايين بيتشابه مع وعى بلطية العايمة فى تمجيد قيم بتسبب لهم ضررا فى حياتهم. يمكن بلطية العايمة وأخواتها يفكروا بعد كده فى عدم الاكتفاء بالانتصار على المؤذيين، إنما كمان فى كيفية الاستفادة من ممتلكاتهم والحصول على أكبر كسب منها، وتحسين وسائل الحياة.