طالب كثير من المصريين إخوانهم المسيحيين بالمشاركة فى الحياة السياسية، وأحيانا انتقدوهم بسبب عزلتهم عن المجتمع خلف أسوار الكنائس، وانشغالهم بهمومهم الطائفية أكثر من انشغالهم بهموم الوطن، إلى أن فاجأوا الكثيرين بمشاركتهم فى كل الانتفاضات التى واجهت حكم الإخوان حتى سقوطه، وأبهروا الوطن كله بتلك الإيجابية والوطنية الخالصة لصالح البلد لا الطائفة، ودفعوا ثمنا باهظا من حرق للكنائس واعتداء على البشر وكأن قدرهم أن يدفعوا فى كل الأحوال الثمن أكثر من غيرهم، سواء حين اتهموا بالعزلة تعرضوا لاعتداءات طائفية، وحين شاركوا فى النضال السياسى تعرضوا أكثر من غيرهم للاعتداءات الإخوانية.
وربما يكون الاعتداء الهمجى على كنيسة الوراق وسقوط أربعة شهداء، بينهم طفلة، يؤكد أن هناك استهدافا إرهابيا يتعرض له المسيحيون المصريون يجب مواجهته بكل حسم.
رسالة أحد المواطنين المسيحيين لى قبل جريمة الوراق بيومين كانت محزنة ومؤلمة فى الوقت نفسه، وهى عظيمة فى اللغة والمضمون، وفتحت جراحا علينا أن ننتبه لها جميعا إذا أردنا أن نبنى دولة قانون وعدل حقيقية.
«الكاتب الكبير الأستاذ الدكتور/ عمرو الشوبكى.. تحياتى لكم وكل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد الأضحى المبارك، وبعد...
أكتب إليك ليس فقط باعتبارك كاتبا وسياسيا مرموقا، بل لأنك أيضا عضو بلجنة صياغة الدستور.
اسمى باسم رجائى عبدالشهيد، أعمل معلما بإحدى مدارس أسيوط. ما أكتبه إليك هو صرخة من القلب، صرخة ألم وحزن وغضب، أرجو أن ترفعها إلى المسؤولين، وإلى لجنة الخمسين، وإلى كل من بيده الأمر فى وطننا الحبيب. إنها صرخة مواطن مصرى تصادف أن يولد مسيحيا، فعاش بنفسه هموم الأقباط ومعاناتهم منذ أطلق السادات وحش التطرف ورعاه ليأتى على أخضر مصر ويابسها. يعلم الجميع أن البابا تواضروس لم يكن الشخص الوحيد الذى دعم بيان 3 يوليو، كان هناك أيضا فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، وكذلك كان هناك نائب رئيس حزب النور. ومع هذا فإن الإخوان بعد فض اعتصاماتهم لم يحرقوا مقرا لحزب النور، ولم يقتربوا من أى معهد أو مدرسة أزهرية من تلك المنتشرة فى ربوع مصر. جامعة الأزهر فى بلدى أسيوط لم تمتد لها يد بأذى. البعض وجَّهَ نقدا شفهيا أو مكتوبا للإمام الأكبر، لكن شعارا واحدا ضد فضيلته أو ضد ممثل حزب النور لم يكتب على سور معهد أزهرى أو مقر لحزب النور. بالطبع لا أطالب بأن يوزع الإخوان شرورهم على الجميع، ولكننى فقط ألفت النظر إلى أن الحرق والتدمير والشعارات المهينة كانت كلها من نصيب الكنائس والمدارس ودور الحضانة ودور الرعاية الصحية المملوكة للكنائس، فضلا عن ممتلكات المسيحيين ومصادر أرزاقهم. هذا الاستهداف هو حصاد الكراهية التى بذر بذورها ورواها شيوخ معدودون من فوق منابرهم على مدار عقود، وهو استهداف يختلف عن استهداف إرهابيى الإخوان منشآت الجيش والشرطة، فالاعتداء على الجيش والشرطة عمل إجرامى خسيس ولا يمكن تبريره، لكنه مفهوم لكون الجيش والشرطة القوتين الوحيدتين القادرتين على ردع إرهاب الإخوان. ولكن غير المفهوم هو استهداف الأقباط لمجرد أنهم أقباط. مرشد الإخوان، الذى عز عليه يوما إيذاء النباتات، أطلق يد أتباعه فى التنكيل بالأقباط. أما الذين يحاولون تسويق فكرة أن الشرطة هى التى أحرقت الكنائس، فهم يسخرون من عقولنا أو يخاطبون جمهورا يعيش فى كوكب آخر. نحن يا سيدى الذين وقفنا فى شرفاتنا ونوافذ منازلنا فى أسيوط نراقب ألسنة اللهب وهى تلتهم الكنائس، ونشاهد سياراتنا فى الشوارع وهى تحترق، ونبكى على مصادر أرزاق الغلابة التى نهبت وأحرقت. نحن يا سيدى الذين خنقتنا سحب الدخان، وعشنا أياما هى الأطول فى أعمارنا خشية امتداد اللهب إلى منازلنا. نحن يا سيدى الذين أغلقنا على أطفالنا غرفا داخلية حتى لا تقع أعينهم على تلك الجرائم البشعة فتتشوه نفسيتهم أو تتأثر علاقتهم بأشقائهم من المسلمين. نحن فقط يا سيدى من يحق لنا تحديد هوية الجناة، لأننا نعرف أكثرهم ونطالع وجوههم يوميا، ونعرف بالتأكيد أنهم إرهابيو الإخوان والجماعات المسماة زورا الإسلامية. ويملؤنا القرف والغثيان والحنق عندما نسمع من يشكك فى هذه الحقيقة. إن كل تشكيك فى مسؤولية الإخوان وأتباعهم عن هذه الجرائم يمثل حرقا إضافيا لكنائس المسيحيين ومشاعرهم. لا أوجه كلامى للإخوان أو أتباعهم، إنما أوجه صرختى إلى من يتعاملون مع مبادرات المصالحة. لقد صدرت مبادرات كثيرة، إحداها صدرت عن قاتل سابق ورئيس حزب حالى، وأخرى صدرت عن كادر إخوانى ظل عاما ونيف يشيد بعبقرية مرسى، ثم عندما قرر الاعتذار جاء اعتذاره متأففا ومترفعا فوق جبال من التبريرات والمطالب، ثم كانت المبادرة الحكومية للدكتور زياد بهاء الدين، ثم سمعنا عن مبادرة الدكتور أحمد كمال أبوالمجد، وبعدها سمعنا بالعودة إلى مبادرة الدكتور محمد سليم العوا. مبادرات كثيرة العدد وكثيرة البنود، لكن جميعها تخلو من بند واحد يخص الأقباط. الجميع يبحث عن صالح الإخوان ويشترى خواطرهم، ولا غضاضة فى ذلك لولا أننا لم نقرأ عن بند واحد يلزم المجرمين بالاعتذار للأقباط عن الحرق والتدمير الذى أصابهم دون ذنب جنوه سوى تصديقهم لخرافة أنهم مواطنون مصريون. لم نقرأ عن بند يلزم من أخطأوا فى حق الأقباط بالاعتراف بحقهم فى المواطنة، أو حتى حق أقباط دلجا وغيرها فى الذهاب إلى حقولهم. لم نسمع عن بند واحد يحظر على الإسلاميين وصف مظاهرة بأن معظمها أقباط، وهو الوصف الذى يترجم على الفور إلى أمر مباشر للقتلة باستهداف الأقباط دون سواهم. أوجه صرختى أيضا إلى لجنة الخمسين. المادة 44 من دستور الغريانى تحظر التعريض بالأنبياء والرسل كافة، لكنها تسكت سكوتا تاما عن التعريض بأتباع الأنبياء، وتكفير أتباع الأنبياء، وإهانة رسالات الأنبياء. إن بلاغة (أفضل دستور عرفته البشرية) تتجلى أكثر ما تتجلى فى تلك المادة العبقرية، فهى تحدد واجبات الإرهابى ومسؤولياته. ليس على الإرهابى من قيد سوى ألا يتعرض لنبى بالشتم أو السباب، أما غير ذلك فأمامه أتباع ذلك النبى يفعل بهم ما يشاء، وأمامه رسالة ذلك النبى يقدح فيها من فوق منبره كيف شاء، ويحرض على أصحابها من ميكروفونه كيف شاء. لقد عاش المسيحيون يا سيدى أكثر من أربعين عاما مثل لعبة فى أقدام الحكام وأقدام تيار الإسلام السياسى. إذا غضب التيار الإسلامى على الحاكم وجه غضبه إلى الأقباط. وإذا أراد الحاكم الإفلات من ضغوط معارضيه غض الطرف عن تحرشهم بالأقباط. كثيرا ما اشتكى الإخوان من تعرضهم للاضطهاد، لكن أحدا منهم لم يعترف بأن هذا الاضطهاد كان ثمنا لتطلعهم إلى السلطة ومنافستهم للحاكم على النفوذ والامتيازات. أما الأقباط فيجرى اضطهادهم بلا ثمن. لم يعد الأقباط فى مصر يا سيدى يشعرون بأنهم بشر، هم مجرد وسائل يمتطيها كل طرف لتحقيق غايته. يستخدمهم الحاكم للضغط على الخارج، وتستخدمهم المعارضة الإسلامية للضغط على الحاكم، ويقدمهم الحاكم قربانا للإرهابيين كلما أراد أن يشغل الناس عن فساده. هذا الوضع المأساوى للأقباط يجب أن يحل فى الدستور الجديد. إن الأقباط لا يعولون كثيرا على ممثلى المسيحيين فى لجنة الخمسين، فأبرزهم ثلاثة قساوسة، وهؤلاء شاغلهم الأساسى هو ضمان أن يكون أمر تزويج وتطليق المسيحيين فى حوزة الكنيسة، وهو مطلب أدنى كثيرا من حقوق المسيحيين المصريين، التى يجب أن تصان فى الدستور القادم، وهى مسؤولية معلقة فى رقاب الخمسين دون استثناء، فهل يسمعون؟».
لا توجد رسالة أوضح من ذلك، فهل سنعى خطورة الموقف قبل فوات الأوان؟