الحكمة العسكرية تعلمنا أن القلعة التى تفاوض تسقط، لأنها حين تدخل فى التفاوض تكون قد فقدت حصانتها، وأن ميزتها كـ«قلعة محصنة» تسقط فور التفاوض، أى أن القوى لا يناور ولا يبادر بالهجوم ولا يخاف عدوا، والقوة هنا هى ما تملك من أدوات وليس بالضرورة أسلحة، فالعدل قوة والمساواة قوة والقانون الصارم قوة، ومن يملك مثل تلك الأدوات لا يفاوض على ما دون ذلك.
لا يعقل أن تتفاوض دولة ما مع جماعة خارجة على القانون، مثلما لا يجوز أن تكون حكومة ما غير قادرة على الاستمرار إلا فى حضن مجرمين.. أعرف أن الدولة- على ما فيها من ترهل وتخبط وغياب الحكمة والتدبر عن قادتها ومن والاهم- لم تدخل طرفاً فى أى تفاوض مع جماعة «الإخوان المجرمين». صحيح أن الدولة أرادت إشراك عناصر من الجماعة فى التشكيل الوزارى، وكان فى ذلك رؤية شديدة المراهقة، وربما نابعة من عدم خبرة من هم فى سدة الحكم الآن، فهل فى مصر الآن أزمة سياسية أم شىء آخر؟
ليس فى مصر أزمة سياسية.. على العكس مصر تعيش وحدة سياسية غير مسبوقة منذ انتصار أكتوبر ١٩٧٣. ما يحدث الآن ليس له مسمى غير أنه حرب فرضت علينا.. حرب مؤجلة منذ سنوات.. حرب هى الأخطر فى تاريخنا المعاصر، لأنها ضد من لا يعترفون بالوطن ولا يقدسون خرائطه ولا يحترمون هويته ولا وحدته.. على محترفى القتل ومشوهى الدين وكارهى الوطن وعملاء الصهاينة وأتباع الغرب، وأعداء الجيش والباحثين عن تمزيقه لكسر إرادة الأمة.. يحدثونك عن ضرورة الحلول السياسية، قل هاتوا برهانكم على أن القاتل يمكن أن يتخلى عن سلاحه، أخطأت الدولة وأخطأ النظام المؤقت حين ترك الحبل على الغارب أمام مبادرات الداخل ووساطات الخارج.
الدولة فعلت ذلك ظنا أن الحبل سيلتف فى النهاية على رقبة الخونة والعملاء. الدولة كانت تريد أن تستنفد كل الطرق السلمية، وتُشهد الخارج على جماعة الخسة والعمالة، وعلى سعى الخونة لإغراق مصر فى بحيرة دماء. هذا ليس موقف دولة قوية، إنما رؤية المهتز ويد الخائف.
فعلى أى شىء تطلق المبادرات وتتعدد الوساطات؟ وكيف يمكن أن يكون مقبولا زيارة «سفاح» فى سجنه لكى يوافق أو يرفض أو حتى يناقش مبادرات سياسية؟
جاءت الوفود الأجنبية كأنها تزور دويلات متعاركة. تلتقى رجال الدولة، والمساجين أيضا. تلتقى الرئيس المؤقت، والرئيس المعزول أيضا. تلتقى «حركات» و«جماعات». تزور المنصات والسجون أيضا. أى دولة تلك التى تسمح بأن يجرى هذا على أرضها؟ أى دولة تلك التى تجعل وحدتها محل شك وكلمتها محل تأويل؟ نعرف أن الأيدى المرتعشة لا تقوى على البناء. الآن تأتى المبادرات من مقربين أو تابعين للجماعة، وكلها مبادرات خارج السياق وبعيدة عن الواقع وخالية من المنطق.. تأتى المبادرات من قاتل أو خائن أو أكل السحت لتبدو «جماعة الإرهاب» فى وضع يماثل وضع الدولة.. وضع يسمح لها بإملاء شروطها، وهى شروط لا يفرضها إلا منتصر.. تأتى المبادرات وفى ظاهرها حقن الدماء، ولم تسأل من الذى يصدر الدماء، من الذى أراد إفساد احتفالات المصريين بيوم عزهم ونصرهم، من يقف فى صف الأعداء مهاجماً درع الوطن وسيفه؟ ثم ترفض الجماعة على لسان اثنين من «سعاة بريدها».. ترفض مبادرة تلو الأخرى، وكأن الدولة «تتحايل» عليها، وكأن جماعة الإرهاب باتت أقوى من جماعة القانون.
تأتى المبادرات من تابعى الجماعة وترفض من سجنائها، بينما لا يوجد أصلاً طرف ثانٍ ليتفاوض. كل المبادرات فشلت لأنها بنيت على وهم، ولأنها مبادرات من طرف واحد، ولأنها مبادرات لا تهدف إلى تأهيل «جماعة مجرمة» وإدماجها فى المجتمع.. مبادرات لا تعترف بما غرقت فيه يد الجماعة من دم.. مبادرات ممن لا يملك ولمن لا يستحق. جماعة الإخوان المجرمين تريد الإفراج عن السجناء، فمن يملك هذا الأمر غير قضاة محاكم الجنايات الذين تنظر أمامهم قضايا ممارسة «الجماعة» أعمال القتل والإبادة والتحريض والإرهاب؟ من يملك إخراج مرسى أو بديع أو الشاطر من محبسهم سوى القاضى الذى لن يفعل إلا بحكم قضائى، يدينهم أو يبرؤهم، وساعتها لا يحق لأحد أن يعترض. الجماعة تعرف أنها لن تعود للحكم إلا على جثث المصريين جميعاً.. تعرف أن مجرميها لن يخرجوا من السجون إلا بأحكام قضائية.. تعرف أن أيديها غرقت فى دماء المصريين.. الجماعة لن تحيد عن الإرهاب والقتل لأنه لم يتبق لها غير ذلك. الجماعة لن ترضخ للدولة ولن تخضع للقانون إلا جبراً وقسراً. فلماذا تأتى المبادرات تلو المبادرات، وكأن مصر تنقصها مبادرات، وليس حلولاً ناجعة تعتمد القانون وسيلة وحيدة وواحدة؟ تأتى المبادرات خدمة للجماعة لتظل فى قلب الواجهة، وأنها قوية بينما الدولة ضعيفة ومرتبكة وعاجزة.. الأمر واضح وجلى، إما أن تكون الدولة قادرة على بسط نفوذها وفرض هيمنتها، أو أنها عاجزة. وفى الطرف الآخر، إما اعتراف بثورة أعادت الأمور إلى نصابها الصحيح أو خروج على القانون.