مئة يوم مَرَّت منذ أن أفلتَت مصر من قبضة الإخوان، وحتى الآن لم يهدأ غضبهم ولم يَقبلوا ما حدث، فهم أبعد ما يكونون عن الاعتذار، وعن قبول أى مبادرات، ولا يسعون لأى نوع من المصالحة، وسيظل الأمر كذلك، فقد قيل كثيرا إن أمام جماعة الإخوان مراحل خمسا يجب أن تمر بها حتى تتقبل الأمر الواقع، وهم لم يتخطوا بعد أول واحدة منها.. مرحلة الإنكار وعدم قبول ما حدث، فهم ينكرون أن الملايين قد خرجت رافضة لحكمهم، ويؤكدون لأنفسهم ولكل من يتبعهم أن صور الجموع التى نُشرت هى نوع من الخدع السينمائية، رغم أن مرسى نفسه يصدقها ولكنه يعتقد أن كل هذه الملايين خرجت لتأييده، وليس للثورة عليه، لقد رفضوا النصف الأول من الحقيقة، وأصروا على نصفها الثانى وهى أن إزاحتهم من السلطة كانت فقط بواسطة انقلاب عسكرى. وكنا نعتقد أن هذه المرحلة من خداع النفس ستنقضى لتحل بدلا منها مشاعر الغضب الذى تجلَّى فى اعتصام رابعة، وكان يجب أن يلى ذلك مرحلة التفاوض، ثم الرضوخ وقبول الأمر الواقع، ولكن مرور مئة يوم أثبت لنا حدوث العكس، فقد استمرت حالة الإنكار، والإصرار على المطالب المستحيلة التى صاحوا بها منذ اليوم الأول للاعتصام، ويبدو أن الرئيس مرسى ليس وحده الذى يتمتع بهذه الدرجة من المعاندة رغم ثمنها الباهظ.
لقد عاد قادتهم إلى السجون، وحُلَّت جماعتهم للمرة الثالثة أو الرابعة، وتعرَّض أتباعهم للجلاء القسرى عن أماكن اعتصامهم، والأمر الأخطر هو أن جزءا كبيرا من الشعب المصرى قد تحول إلى النفور منهم والتصدى لهم.
كل هذا لم يَفُتّ فى عضدهم أو يغيّر من قناعاتهم، فمنذ أيام قلائل تقدم الدكتور كمال أبو المجد، القانونى والمفكر الإسلامى المعروف بمبادرة إلى الإخوان للتصالح بينهم وبين الدولة، ولم تكن هذه أول مبادرة يتم رفضها، رغم أن الدكتور أبو المجد كان يبدو واثقا من قبولها، ربما بسبب حُسن نيته، أو لأنه ينتمى فكريًّا إلى تيارهم الإسلامى نفسه، ولأن الأمور قد تدهورت إلى حد لا يمكن السكوت عنه، ولكنهم رفضوا مبادرته فى صَلَف، واتهموه بالانحياز إلى جانب السلطة، وسيفعلون ذلك مع كل مبادرة قادمة. إنهم ليسوا فى حاجة إلى أى نوع من المبادرات، فلن يتصالحوا ولا رغبة لهم فى ذلك، وهم يعرفون أنهم خسروا معركة حكم مصر، ولكنهم متأكدون أن القبول بالمصالحة تحت ظل الهزيمة سيدمّر الجماعة نهائيا، وهو مبدأ عام أخذوا به فى كل المحن التى تعرضت لها الجماعة، فمن المستحيل أن تتصالح مع مجتمع تراه كافرًا، يعيش فى جاهلية جديدة بعد أن فقد نقاء الإسلام وقوته الدافعة، ومن المستحيل أيضا أن يضعوا أيديهم فى أيدى سلطة حاكمة، لأن الحكم لله، وهى خارج سلطته، بينما هم جنوده المخلصون… أى أن الجسور مقطوعة، أو ربما لا توجد جسور على الإطلاق.
لا يحب الإخوان الحركة الشيوعية كثيرا، ولكن لا يمنعهم هذا من الاستفادة من تجاربهم، فقد وعوا تجربة الحزب الشيوعى المصرى جيدا، وهو لا يُقاس بقوة الإخوان ولكنه كان واحدا من أكبر الأحزاب الشيوعية السرية فى الستينيات، اتصالاته كانت واسعة بنقابات العمال والفلاحين والعديد من المثقفين، ولكن القبضة الأمنية كانت شديدة الوطأة عليه، لم يبالِ جمال عبد الناصر بالصداقة التى كانت تجمعه بالاتحاد السوفييتى، ووجَّه أشد ضرباته إلى هذا الحزب، وضع الكثير من قادته داخل السجون المشددة وعرَّضهم للتعذيب المستمر، حتى إنهم لم يجدوا بُدًّا من التخلى عن تنظيمهم والإعلان عن حل الحزب، وقد أثار هذا جدلا وشقاقا بالغين بين أعضائه، خصوصا بعد أن قَبِلَ بعض قادته عددا من المناصب الرسمية فى حكومة عبد الناصر والسادات من بعده، واستأثرت مؤسسة الأهرام بمجموعة من المثقفين الشيوعيين وسمحت لهم بإنشاء مجلة «الطليعة»، التى استمرت لعدة أعوام قبل أن يتم إغلاقها، وقد دُمِّر الحزب تماما، وظل غائبا عن الحياة السياسية حتى عاد مع ثورة 25 يناير من قبيل «عودة الأشباح».
فى هذا الوقت ظلت جماعة الإخوان متماسكة رغم أن ظروفها لا تقِلّ سوءا، فقد تلقّت فقط قُبلة الحياة وخرجت للعلن فى عصر السادات، ولكنها عادت للحصار الأمنى بعد اغتياله، وظلت طوال هذه المدة تنمِّى كوادرها وتستثمر أموالها بسرِّية ومهارة، ورغم مدتها القصيرة فى حكم مصر فقد ضاعفت هذه الأموال. سيكون التصالح هو بداية انهيار فكرة التنظيم المغلق نهائيا، سيتحول إلى تنظيم سياسى هشّ تذروه ريح الصراع على السلطة، لذا فهى تقاوم كل الضغوط التى تدفعها إلى ذلك، ولديها أسباب ثلاثة تشجعها على المقاومة:
أولها، أن معظم قيادات التنظيم الموجودين فى السجن الآن سيتم الإفراج عنهم آجلا أو عاجلا، فالتهم الموجَّهة إليهم واهية ومن الصعب إثباتها، تُهَم كالتخابر مع قطر أو حماس لن تصمد أمام القضاء، فليس لهذه الدول الشقيقة مصلحة فى التخابر أو جمع المعلومات عن مصر، كذلك الأمر مع تُهَم التحريض أو القتل، فلا توجد أدلة إثبات وسط هذه الفوضى العارمة، وقد أفلت من قبلهم العديد رجال الشرطة من أمثال هذه التهم، رغم وجود العديد من الصور والشهود، وسيُفلت القتلة والمحرضون الجدد لأن الدم فى مصر مجانىّ وبلا ولىّ.
وثانيها، أن أموال الجماعة بخير ومخبَّأة بطريقة جيدة، فهم يعلمون، رغم إيمانهم بالله، أن المال هو القوة الوحيدة التى يثقون بها، وقد نمت أموال قادتهم رغم السجون والمصادرة، وهى مثل جبل الثلج لا يظهر إلا قمته، والمصادرات لا تمسّ إلا هذه القمة البارزة، أما الجزء الأكبر فهو آمن فى مسارب الاستثمار الخفية دون أن يتمكن أحد من اعتراضه، ولم يكن غريبا، عندما قامت الحكومة مؤخرا بمصادرة أموال الجماعة أن لا تجد فى حساباتها إلا 60 ألف جنيه فقط لا غير، لذا فالجماعة موقنة بأن انطلاقها فى مجال العمل لن يتأخر إلا قليلا، لأن أساسيات عملها لم تتأثر.
وثالثها، أنه للمرة الأولى فى تاريخ هذه الجماعة يوجد لها ظهير دولى، أصوات من الخارج تطالب برفع القبضة الأمنية عنها، وإشراكها فى العملية السياسية، ومن الصعب أن تقاوم أى سلطة هذه المطالب طويلا، وستجد نفسها بين طرفَى نقيض، قاعدة عريضة من الشعب المصرى ترفض عودة الإخوان، بما تحمله من ذكريات سيئة عن العام الوحيد الذى حكموا فيه مصر، وبين ضغوط الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبى وإفريقيا أيضا، وستجد الدولة نفسها مرغمة على تخفيف قبضتها، وبالتدريج ستعود الجماعة إلى مقدمة صفوف السلطة مرة أخرى دون أن تقدم تنازلا واحدا، لن يتصالح الإخوان إذن، ولكنهم يفضلون أن يكونوا، كما كانوا دائما، شوكة فى ظهر أى نظام، وسيُنهكون الحكومة ويُنهكوننا.. وربنا يستر فى قادم الأيام.