أثناء الاحتلال الإنجليزى لمصر كان شعار الحركة الوطنية المصرية هو الاستقلال والدستور، وكان المعنى هنا هو أن ما تحتاجه مصر ليس فقط خروج المحتل من أرض الوطن، وإنما أيضاً وجود نظام سياسى يكفل علاقات سوية بين الحكام والمحكومين كما هو الحال فى الأمم «المتمدينة» أو «المتحضرة».
حصلت مصر على استقلالها على أى حال وخرج الإنجليز من مصر، ولكن قضية الدستور اختفت كقضية وطنية ملحة، وفى عام ١٩٥٤ لم يجد الحكم مشكلة فى إلقاء دستور لجنة الخمسين «فى القمامة» كما قال لنا القدير صلاح عيسى فى كتابه القيم عن ذلك الدستور. ورغم الخطايا الكثيرة التى جرت سريان الدماء فى الجسد خلال الدساتير التى صدرت بعد الاستقلال- ١٩٥٦، ١٩٥٨، ١٩٦٤، ١٩٧١- فإن هذه كلها حازت على أغلبية ساحقة من الشعب لا يمكن أن يكون لها مثيل فى بلد ديمقراطى، ولا أذكر أن الموضوع استحق نقاشاً حقيقياً بين المثقفين حتى عندما قرر الرئيس السادات عام ١٩٨٠ إجراء تعديلات جوهرية فى الدستور الأخير أتاحت لرئيس الجمهورية الحكم لآجال غير معلومة، وعقّدت العلاقة بين مصادر التشريع بين الشعب والنصوص «التشريعية» أكثر مما كانت معقدة.
ولكن إنشاء المحكمة الدستورية العليا وضع الدستور، دون أن يدرى أحد، على المائدة السياسية، خاصة بعد أن أخذت المحكمة فى إصدار أحكام دستورية تبطل القوانين وانتخابات مجلس الشعب أكثر من مرة. وجاءت مسألة رقابة القضاء على الانتخابات العامة لكى تفتح فصلاً جديداً للمسألة الدستورية فى مصر، فبدأ الحديث عن التعديلات الدستورية فى عام ٢٠٠٥ وظل ماثلاً ومطروحاً حتى عام ٢٠٠٧. لم تكن النتيجة إيجابية فى النهاية، وساد الظن، وبعض الظن إثم، أن جوهر المسألة كلها التوريث، والاستجابة للضغوط الأمريكية التى دارت مع إدارة بوش من أجل التحول الديمقراطى فى المنطقة. انتهى الأمر على أى حال مع نشوب ثورة يناير ومناداتها بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ولكن قليلاً من الهتاف والأحاديث دار حول الدستور فى الميادين والشوارع.
كانت النخبة السياسية هى التى طرحت الموضوع فى إلحاح خلال مداولتها بينها والحكم فى فترة الثورة، فنجم عنها تشكيل لجنة لتعديل الدستور، أذكر أن من أبرز أسمائها كان د. كمال أبوالمجد ود. يحيى الجمل. انتهت هذه المرحلة سريعاً، ومن بعدها بدأت مرحلة من «العك الدستورى» لم يسبق لمصر أن عرفته من قبل بمثل هذا التوالى والسرعة. وكانت البداية عندما تجاهل المجلس العسكرى اللجنة التى شكلها مبارك من قبل وكانت فيها أسماء قانونية لامعة، وتم تشكيل لجنة جديدة تحت قيادة الأستاذ طارق البشرى. بدأت اللجنة الجديدة سلسلة من الانقسامات التى تعيش معنا حتى اليوم حول مسألتين: من الذى يضع الدستور، وما هو محتوى الدستور الجديد؟ كان تشكيل اللجنة عجيباً ويميل بوضوح إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين، ولكن الوجبة كان يمكن ابتلاعها لأن اللجنة اختصت بنظر النصوص الدستورية الخاصة برئيس الجمهورية، ومن ثم كان الاستفتاء وقبول التعديلات فى ١٩ مارس ٢٠١١. كان معنى ذلك فى الواقع هو عودة دستور ١٩٧١ مرة أخرى بعد التعديل، ولكن المجلس العسكرى قرر بعد أيام إصدار إعلان دستورى آخر أصبح هو دستور البلاد الذى لم يجر عليه الاستفتاء.
اختلط الحابل بالنابل بعد أن بدأ الانقسام بين الإخوان و«القوى الوطنية»، ليس فقط حول ما جرى دستورياً وهو يثير الذهول، وإنما حول من تكون له الأسبقية: الانتخابات أم الدستور؟. دخل الدستور دائرة الانقسام الوطنى، حتى ولو لم يكن أحد يعلم ما شكل هذا الدستور وفصله، وجرت المظاهرات والمظاهرات المضادة، حتى جاءت الانتخابات وبدأ فصل جديد من المسألة الدستورية قوامه الجمعية التأسيسية لوضع الدستور وعما إذا كانت تحكم بالأغلبية أو بالتوافق. كان من ينادون بالأغلبية يعتبرون مجلس الشعب نوعاً ما من الجمعية التأسيسية المنتخبة، ومن يريدون التوافق يريدونها جمعية خاصة تكفل التكافؤ ما بين جماعات الإسلام السياسى، والجماعة المدنية فى مصر.
وصل العك الدستورى مداه عندما صدر حكم المحكمة الدستورية العليا ببطلان الجمعية التأسيسية المختارة من البرلمان، وبعدها بدأت سلسلة جديدة من البهلوانيات السياسية التى شكلت جمعية أخرى، مماثلة للأولى، وانتهى الأمر بحكم آخر للمحكمة بحل مجلس الشعب نفسه. كان النقاش حول الدستور فى الجمعيتين مرهقاً فيما عبر عنه من انقسام لم يدر مرة حول كفاءة الحكم، وإنما سيطر عليه ما عرف بقضايا الهوية التى كانت نوعاً من التعبير الرمزى حول المدى الذى تذهب مصر إليه حسب المعايير الدولية: إلى الأمام أو إلى الخلف؟ خطفت الانتخابات الرئاسية الأنظار على أى حال، إلا أن المجلس العسكرى خطف الأبصار فجأة قبل إعلان النتيجة عندما أصدر إعلاناً دستورياً تكميلياً يعطى للمجلس ورئيسه سلطات قريبة من سلطات رئيس الجمهورية. أصبحت مصر فجأة تحت سلطة مزدوجة بعد أن أقسم الرئيس الجديد محمد مرسى اليمين الدستورية مرغماً أمام المحكمة الدستورية العليا، فأضاف لها قسماً آخر فى ميدان التحرير، وثالثاً فى جامعة القاهرة، لم يكن أى منها له علاقة بالدستور. لم يعش الإعلان التكميلى طويلاً، فقد قام الرئيس الجديد بإلغائه فى ١٢ أغسطس، وباتت البلاد لا تعرف على وجه التحديد قيمة الدساتير والإعلانات الدستورية التى تعلن وتلغى. والعجيب أن ذلك كان ما فعله الرئيس مرسى، فبعد أن فشلت محاولاته فى عودة مجلس الشعب المنحل، فإنه دعا مجلس الشورى للقيام بمهمة وضع الدستور من خلال جمعية جديدة، ولكنه بدلا من انتظارها قرر فى شهر نوفمبر ٢٠١٢ إصدار إعلان دستورى أعطى فيه لنفسه سلطات مطلقة لم يحصل عليها أى من أسلافه فى الرئاسة أو حتى أئمة الشيعة أو أمراء المؤمنين.
انفجرت البلاد، وبقية القصة معروفة، فقد جرى حصار المحكمة الدستورية العليا لمنعها من إصدار أحكام تخص مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية الجديدة التى لم تكن تختلف عن الجمعيات التأسيسية القديمة، وأكثر من ذلك انهارت كل الأبعاد التوافقية لإصدار دستور جديد بعد انسحاب كل الأحزاب والمؤسسات والأفراد الذين ليس لهم علاقة بجماعة الإخوان المسلمين والمتحالفين معها من الجماعات السلفية والإسلامية، حتى بدا الأمر وكأنه جمعية ذات بعد واحد مهمتها إصدار دستور يخص مصر كلها. وبلغ العك الدستورى مداه عندما جرى الإصرار على استفتاء على دستور انسحبت الغالبية من الجماعة القضائية المصرية من الإشراف عليه، ولم تحضره الغالبية ممن لهم حق التصويت، وجرى الإشراف عليه من قبل الجماعة وإخوانها. وباختصار فإنه أيا كانت ادعاءات الجماعة حول دستور ٢٠١٢ فإنه لم يحصل على الشرعية اللازمة لذلك. كان العك الدستورى قد وصل مداه فى محتوى الدستور حينما جعل جوهره التمهيد لقيام دولة دينية على النمط الإيرانى، وكان الفارق هو أنها دولة تقوم على ولاية الفقهاء بدلاً من ولاية الفقيه، ولكنها تتفق معها فى غياب الشعب كمصدر للسلطات، وفى تقسيم البلاد إلى طوائف دينية كل منها تختص بشؤونها. كانت الدولة المدنية فى مصر تلفظ أنفاسها، فكانت الموجة الثالثة من الثورة المصرية فى ٣٠ يونيو.
لقد آن الأوان هنا لوضع نهاية «للعك الدستورى»، ورغم أن ذلك صعباً فى نهاية الثورات، فإنه لا يوجد بديل آخر لوضع دستور آخر يكفل كفاءة إدارة الدولة، وتداول السلطة، ويحفظ لمواطنيها حقوقهم، ويرتب عليهم واجباتهم، ويعطى لمصر المكانة التى تستحقها. فهل فعلت اللجنة الحالية ذلك، أم أنها فى طريقها إلى إخفاق آخر؟ وللحديث بقية.