حينما كنت أطرح على أصدقائى فكرة المفاوضة بين الدولة والإخوان، من أجل وقف نزيف الدم والوصول إلى حل واقعى، كان الإخوانىّ يصرخ على الفور: «لا بديل عن عودة مرسى ومحاكمة الانقلابيين». ثم يستطرد مستنكرا: «هل يضيع حق الشهداء؟!».
هكذا منتهى عدم النضج وإنكار موازين القوى. وفى اللحظة نفسها، يقول أعداء الإخوان: «لا مكان لهؤلاء الخائنين بيننا. هم لا يعترفون بمعنى الوطن». وكأننا نستطيع أن نمسح وجود عدة ملايين بإنكارهم. وكأن العالم سيتركنا نصنع بهم ما نشاء!.
حينما كنت أسمع هذه الأفكار المتصادمة غير الناضجة كنت أتذكر على الفور «الشيخ يحيى»، وهو من شخصيات رواية «واحة الغروب» للعبقرى بهاء طاهر. الشيخ يحيى من الأجواد الغربيين فى واحة سيوة. وقد كانت له تجربة مهمة يمكن استلهامها فى الأحداث الدامية والمعقدة التى تمر بها مصر الآن.
إنها فكرة «كل شىء» أو «لا شىء» التى طرحها الشيخ يحيى فى شبابه. غالبا ما تعكس هذه الفكرة جموح الشباب. وقد كان الشيخ يحيى بالفعل شابا وقتها. أما مع تقدم العمر ونضوج الإنسان، فإنه سرعان ما يعرف أنه لا وجود لعبارة «كل شىء» أو «لا شىء»، وأنه لا مفر من التفاوض، خصوصا بين فرقاء الأوطان.
دعنا نعرف حكاية الشيخ يحيى، ونعرف فى الوقت نفسه مدى المشابهة بين أحوال واحة سيوة فى نهاية القرن التاسع عشر وبين أحوال مصر فى القرن الواحد والعشرين.
كان هناك نزاع بين الأجواد الشرقيين والأجواد الغربيين الذين يمثلون صفوة مجتمع سيوة. وبالطبع كان يتبع كل فريق «زجّالته» الفقراء. مثلما يحدث فى مصر الآن من نزاع بين قيادات الدولة- ممثلة فى المؤسسات السيادية- وبين قيادات الإخوان المسلمين، ويشجع كل طرف- فى الناحيتين- جمهور عريض. ومثلما سالت دماء هنا على أرض المحروسة، فإن الدماء لم تتوقف فى واحة سيوة، ومثلما كانت الحروب لا تحسم الوضع هنا كانت لا تحسمها هناك.
فى لحظة ما توقف الشيخ يحيى. كان وقتها فارس الغربيين المُبرّز. رفض المشاركة فى الحرب. قال: يكفى ما سال من الدماء! جاءه الأعمام والأخوال والإخوان والخلان. قالوا: أتتركنا ها هنا ودماؤنا تسيل؟ أتتخلى عنا فى الوقت الحرج؟. هنا بالضبط طرح الشيخ يحيى فكرته الغريبة.
إذا أردتم أن أشارك فى الحرب، فلتكن آخر الحروب. إما نبيدهم إلى آخر مقاتل أو يُبيدوننا. المهم أن تنتهى الحرب تماما، ولا تتكرر.
بعبارة أخرى هو ما بدأت به المقال. «كل شىء أو لا شىء». حرب حتى آخر فرد يعقبه السلام.
والذى حدث أن الغربيين وافقوه على ما يريد. أعطوه العهود الموثقة أنهم سيحاربون حتى آخر رجل. لكن فى ساحة القتال برزت الخصلة الواقعية! هربوا من الساحة وبقى يقاتل وحده وأغلى أمانيّه أن يموت.
لا يهمنا بعد هذا استقصاء القصة. لا يعنينا أن الشرقيين أكبروا شجاعته، وألقوا الأسلحة تحت قدميه، وراودوه أن ينضم إليهم، ويحكمهم. لا يهمنا أنه ترك الواحة مُغضبا ويمّم وجهه صوب الصحراء.
الذى يهمنا أنه أثبت بطريقة عملية أنه يستحيل الوصول إلى نقطة «كل شىء أو لا شىء». وبرغم الدوافع النبيلة للشيخ يحيى فإن الفكرة نفسها ليست ممكنة وطفولية وغير ناضجة، ولا تصلح لترميم الأوطان.
التفاوض هو الحل الوحيد بين فرقاء الأوطان.