تراكمت بطول مسيرة الإنسانية الطويلة تعريفات لا حصر لها تحاول الإحاطة بظاهرة الكائن البشرى، أكثرها ظرفًا ولطفًا وعمقًا أيضًا هذا التعريف الذى يقول إن الإنسان يختلف عن الحمار (لا مؤاخذة) فى أن الأول كرّمه المولى تعالى عن أخيه الثانى بالعقل وذاكرة مركبة تحفظ وقائع التاريخ وحوادثه مع قدرة على استخلاص الدروس والعبر، وبسبب هذا الفارق الخطير، فإن آخر حمار فى الدنيا قد يموت ويروح فى ستين داهية بغلطة أو حماقة كان ارتكبها أول حمار سعى فى الأرض مرحًا.. يعنى باختصار ممكن حضرتك تقول وأنت مرتاح البال ومتهنّى أن «الإنسان حمار لديه ذاكرة ويحمل على كاهله سجل تاريخى ثمين وثقيل».
ومع ذلك، ولكى لا نتجنّى ونظلم إخوانّا الحمير كثيرًا لا بد من الاعتراف أن الخالق سبحانه قد أفاء ومنّ على هذه الكائنات المسكينة بشيئين أو ميزتين يندر وجودهما فى العديد من البشر، أولهما الصبر والجلد وثانيهما الطيبة وانعدام القدرة والرغبة فى الإيذاء.. كما لا يجب أن ننسى أن الحمار ليس خاليًا تمامًا من مخزن الذكريات، لكنه وعاء بدائى يحتفظ فقط بالوقائع والخبرات ذات الطابع الحسى التى من نتائجها المشهورة تعوّد أى حمار على السير بصاحبه فى طريق معين آليًّا ومن دون توجيه، لأنه مشى به عليه ألف مرة.. أو أقل قليلًا.
لست أريد ولا أنا مؤهّل أصلًا للإفتاء فى علم أصل الأنواع والكائنات وطبائعها وخصائصها المختلفة، وإنما أكتب هذه السطور من باب التذرع، أو بصراحة «التلكيك» واختراع مناسبة غير مملة للحديث مجددًا هذا اليوم عن الست عصابة الشر السرية التى حكمتنا بالعافية والبطلان لمدة سنة سوداء كاملة قبل أن يرسلها الشعب المصرى إلى الجحيم ويمسح عارها من على جبينه بثورة أسطورية.. والحكاية أننى وكثيرين غيرى لاحظنا أن هذه الست (مع عظيم الاحترام والاعتذار لكل إناث البشر وسائر المخلوقات) إضافة إلى الشرور والعربدة والإجرام، تبدى وتظهر يوميًّا آيات معجزات من الاستحمار العقلى والسلوكى، لعل أخطرها وأشدها بروزًا ووضوحًا أنها تتصرف وتفكر (مع الاعتذار أيضًا للتفكير) وكأنها أول عصابة فاشية فى التاريخ، ومن ثَم تراها حضرتك تعيد بخيابة وبلاهة إنتاج أحط وأغبى ارتكابات الفاشيين القدماء وحماقاتهم غير دارية ولا مدركة للعواقب الوخيمة التى سترتد وبالًا عليها هى نفسها، عاجلًا لا آجلًا.. حتى فى ظل حقيقة أن المجتمع والناس يتكبّدون ثمنًا فادحًا كان ممكنًا عدم دفعه لو لم يختبروا ولا ابتلوا بهذه المصيبة السوداء المسيّحة.
والحق أن كل مشروع إجرامى فاشى مر على المجتمعات البشرية عربد ووزع جرائمه فى كل اتجاه.. صادر الحقوق والحريات، وأشاع الظلم وثقافة الخوف، وقوّض دولة العدالة والقانون، وجاهد للسطو على أدمغة جحافل البشر الغلابة البسطاء واستلاب عقولهم وتشويه وعيهم وربما أرواحهم أيضًا، ثم فى النهاية يسقط فى شر أعماله وجرائمه ويذهب فى ستين داهية ويستقر فى قاع صفيحة زبالة التاريخ.
غير أن بعض الفاشيّات كانت من النوع الذى أكمل تعليمه، فاهتمت بمنح نفسها بعض أسباب القوة وشيئًا من مساحيق الزواق وحاولت أن تقدم لشعوبها المنهكة شيئًا من الإنجاز المادى فى أى مجال، لئلا تعجل بقضاها وتفاقم مشكلتها الرهيبة الأصلية وتثقل موازين جرائمها بالفشل الذريع والخيبة القوية فتصير شرًّا مطلقًا خالصًا ونقيًّا يجعل حتى الحجر يتململ، ويحرض أشد خلق الله غلبًا وخنوعًا واستسلامًا على الغضب والتمرد .. فالحمير وحدها هى التى لا تفهم أن البؤس والعدم قد يعطل قدرة البشر على التفكير، لكنه لا يخمد لهيب الغرائز بل ربما يؤججها ويشعل نار الشعور بالحرمان الذى هو أقوى أسباب الثورة.
ولأن الفاشيين المجرمين بتوعنا -من ستر ربنا- حمير متوحشة، فإنهم لم يكتفوا بسجلهم الأسود وشرورهم وأفعالهم الدنيئة وهم فى السلطة، وإنما زادوا عليها بعد الخروج فواحش وجنايات بشعة ورهيبة لا تبدأ بالقتل والتدمير والتخريب ولا تنتهى بالخيانة الوطنية فى أكثر صورها انحطاطًا وأشدها جلبًا للأذية.. لهذا نحن نعيش الآن لحظة نادرة ومحزنة جدًّا، إذ نرى الفاشيين الحمير يتآكلون وعلى وشك الانقراض والطرد نهائيًّا من مجتمعنا ودنيانا كلها بالجسد، مع أننا لم نكن نريد سوى خروجهم من السياسة فحسب!!