بعدما سجل مارادونا هدفه الشهير عام 1986 في مرمى إنجلترا بيده.. راوغ كثيرًا حتى اعترف..
ففي البداية قال: «سجلته بكثير من رأسي وقليل من يدي»..
وبعدها جعل اعترافه أكثر وضوحًا وأكثر مرحًا: «بقليل من رأسي وقليل من يد الله»..
ثم حسم المزاح والكذب معًا بتورية ذات مغزى: «لقد كانت يد الله!»
وصار الاسم الأشهر لهذا الهدف في عالم الكرة : «يد الله»..
***
قبل أكثر من عشر سنوات حاول المدرب الألماني، الذي كان يتولى تدريب الزمالك حينها، «أوتو بفستر» شرح أزمة منتخب مصر لكرة القدم، في أحد اللقاءات الحوارية على التليفزيون المصري قائلا: «لو أنهم جاءوا بلاعبي أي منتخب في الدنيا وبدلوا (فانلته) وتركوا اللاعبين في الملعب.. سيمكنك على الفور تمييز الفريق من أسلوب لعبه.. إذا رأيت لاعبي البرازيل بأي زي، ستقول هذه البرازيل.. لو رأيت إيطاليا ستعرفها على الفور.. لكن مع مصر، سواء ارتدى اللاعبون فانلة بلادهم أم لم يرتدوا، فإنك لا يمكنك تمييزهم.. منتخب مصر ليس لديه شخصية في الملعب.. ليس لديه أسلوب أو سمات مميزة».
كان تشخيص «أتو بفستر» القاتل يعكس ما هو أبعد من مجرد كرة القدم.. ربما كان العجوز المخضرم يتحدث عن انعدام الهوية ككل..
الكرة المصرية في عهد مبارك –ربما- كانت امتدادًا حرفيًا لشخصه وسياساته.. فلم يكن هناك نجوم حقيقيون.. كان هناك نجوم خافتو البريق..عقلانيون في لعبهم أكثر منهم مغامرين.. متحفظون محدودون أكثر منهم خياليين.. دومًا في خانة رد الفعل.. والفريق ككل يتبع خططًا دفاعية مملة فوق الوصف.. لا يخسر خسارة فادحة ولا يفوز فوزًا كبيرًا.. إلا فيما ندر.
والمعلقون الرياضيون- من جانبهم- يقولون على المدافع الذي يشتت الكرة خوفًا وارتباكًا: «اتبع «مبدأ الأمان والسلامة».. كأنهم يبررون لمبارك وللمدافع الفاشل معًا.
فقط في سنوات مبارك الأخيرة، ومع تدهوره سياسيًا، كان منتخب مصر قد بدأ يتغير رويدًا رويدًا.. يهاجم ويباغت ويتمرد.. وربما كان في خروج الظاهرة الكروية عن مألوفها إيذانًا باحتضار الظاهرة السياسية..
لا يمكنك أبدًا فصل طبائع الشعوب وسياساتها عن الطريقة التي تلعب بها.. لايمكن ألا تلحظ: الإنجليز وانتشارهم «الاستعماري» في أرجاء الملعب واعتماد الكرات الطويلة التي تشبه مقذوفات بوارج التاج البريطاني.. اللاتينيين وعروضهم الكروية المذهلة التي تبدو كما لو كانت فصلا من واقعية ماركيز السحرية.. اليابان ولاعبيها الذين يتحركون بسرعة ويمررون بدقة كمبيوترية غير إنسانية.. الألمان وأداءهم المنضبط المميكن.. الدول تلعب بإرثها الحضاري وسماتها السياسية بصورة لا تحتاج الكثير من الخيال لتمييزها.
***
خسارة المنتخب المصري أمام غانا ليست منبتة الصلة بهذا الشتات الذي نعايشه ولا هي خارجة عن إطاره..
ذهب المنتخب الوطني ممثلا لبلد يشهد حربًا أهلية باردة، تتمثل في مجموعة من الاشتباكات و«العلق» المتبادلة بين الإخوان وأنصارهم وبقية أطياف الشعب من ناحية أخرى.. ويشهد شتاتًا ذهنيًا ونفسيًا بين ثورتين، نحاول أن نجعل ثانيتهما امتدادًا للأولى، بينما يجاهد آخرون لتنسخ الثانية الأولى وتدفنها كأنها العار الذي ينبغي إخفاؤه!
ذهب المنتخب الوطني وخلفه بلد يحكمها جيش وحكومة ذات جناحين (إصلاحي ومحافظ) ورئيس مؤقت.. ويعكنن عليهم حزب سلفي.. فيما يناصب الإخوان (وحلفاؤهم من القاعدة والجهاديين) العداء لكل هؤلاء..
لعب المنتخب «المصري»، بينما عدد من حاملي «الجنسية المصرية» يجلسون في صفوف غانا..
لعب المنتخب المصري، بينما لا توجد ملامح متبلورة لـ«مصر» التي يلعبون باسمها.. لا توجد قيمة سياسية أو إنسانية ملحة تلهم هؤلاء اللاعبين ماذا عساهم يفعلون في الملعب على مستوى ما هو أبعد من مجرد تمرير الكرة أو تسديدها!
بالطبع لا يذهب كل منتخب لأي مباراة بعد قراءة تاريخ بلاده وبعد شحن نفسه معنويًا، وفقًا لفلسفة الوطن الذاتية.. لكن القيم حين تستقر تلهم وتنحت الملامح وترتب الأهداف والواجبات، وإن لا شعوريًا..
***
لا ترجع هزيمة المنتخب المصري لأسباب سياسية فحسب، فهو كفريق لا يمكنك التنبؤ به أبدًا.. يمكن أن يطحن عظام كبرى المنتخبات العالمية.. ويمكن أن ينهزم من دول لا نعرف موقعها على وجه الدقة أين على الخريطة.
هو منتخب مأزوم على نحو عميق.. انتصاراته الرائعة عادة ما تكون وليدة شحن شعبي جارف أكثر منها نتيجة تدريب منهجي مميز وفكر تخطيطي رائع وتنفيذ فذ من اللاعبين..هو منتخب لا يتركك كي تيأس منه أبدًا.. ولا يتركك أن تثق به مطلقًا.. دومًا يضعك بين ضدين لا يربطهما رابط.
وربما هكذا مصر أيضًا.. الأمل مغموس في اليأس.. واليأس محيط بالأمل.
***
في المباراة نفسها التي سجل فيها مارادونا هدفًا بيده.. سجل هدفًا آخر من أروع أهداف كرة القدم في تاريخها حين راوغ نصف لاعبي المنتخب الإنجليزي تقريبًا حتى وضع كرته بين أحضان الشبكة.
لكن مارادونا لم يطلق على هدفه الفذ «ركلة الله!»
وربما ليس على منتخب مصر- «الذي بين عشية وضحاها لأسباب غير مفهومة تمامًا لم يعد منتخب الساجدين!»- أن يراهن على حدث استثنائي كوني أو على ثغرة قانونية مزعومة ضد غانا كي يصعد.
ليس على منتخب مصر أن يراهن أن «يد الله» ستتدخل.. كما في هدف مارادونا الأول.. بمقدار ما عليه أن يسعى أن تتدخل «يد الله» على طريقة الهدف الثاني.
وربما علينا أن نلحق صياغة وطننا قبل أن يلعب المنتخب وهو _أو جمهوره!_ مهدد بالاعتقال تحت طائلة قانون التظاهر الجديد!