ظلت «المسألة الدستورية» تؤرقنى منذ باتت قضيتان تشغلان البال، فيما يخص بطء وأحيانا فشل المحاولات الإصلاحية فى مصر: الأولى ذكرتها مراراً فى مقالاتى الأخيرة، وهى أن هناك حالة من الإخفاق المستمر على مدى أكثر من قرنين فى الوصول إلى حالة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، والثانية أن الإخفاق لم يكن يخص النخبة الحاكمة فقط، وإنما كان مجتمعياً، حيث سادت ثقافة خاصة خلال العقود الستة الأخيرة، تمجد الفقر على حساب الثروة، والضعف بدلاً من القوة، والجهل بديلاً عن العلم. تفاصيل ذلك تم التعرض له فى كتابات سابقة تعود إلى أوائل الثمانينيات، ولكن الاهتمام الجدى بالمسألة الدستورية كان مع القرن الحالى، حيث بات واضحاً ألا يمكن الخروج من نفق الإخفاق الدائم ما دام الدستور القائم آنذاك (١٩٧١) فيه هذا القدر من العوار والتناقض والارتباك. وظهر ذلك فى مقالات متفرقة، كان أبرزها «مراجعة الدستور المصرى، الأهرام، ١٤/ ٢/ ٢٠٠٥» و«فى نقد الدستور المصرى، نهضة مصر، ٢٧ /٣ / ٢٠٠٦»، وكان ذلك قبل وبعد بداية الحديث عن إجراء تعديلات فى الدستور، ومن ثم، وجدت لازماً طرح مجموعة من المبادئ الأساسية التى يستحيل قيام دستور جديد أو معدل بدونها، وجاءت هذه فى سلسلة مقالات نشرت فى الأهرام على الوجه التالى: مواطنون لا رعايا ٢٦ /١٢ / ٢٠٠٥، شركاء لا أُجراء ٢ / ١/ ٢٠٠٦، أغنياء لا فقراء ٩ /١ / ٢٠٠٦، أحرار لا عبيد ١٦/ ١ / ٢٠٠٦، ثم كانت الخاتمة، تغيير لا تعديل ٢٣/ ١ / ٢٠٠٦.
كان اعتقادى جازماً أن الدستور المصرى لا يتحمل عمليات للتعديل أو الترقيع، وأننا نحتاج إلى دستور جديد يقوم على أسس فلسفية واضحة، ويتجنب محاولات التلفيق والخلط التى نغرم بها دوماً على أساس أن التركيب بين المتناقضات سوف يؤدى إلى تجميع محاسنها، فينتهى الأمر إلى تجميع مساوئها، وما تولده المساوئ المجتمعة من ذنوب ومعاص إضافية (راجع فى الأهرام لماذا يجب أن نغير الدستور ٦/ ١٠/ ٢٠٠٥، لماذا نطالب بتغيير الدستور ١٣/ ١٠/ ٢٠٠٥). كانت هذه المقالات سبباً فى صدور «تأنيب» من الجهات العليا، لأن مثل هذا الاتجاه يؤدى إلى حدوث البلبلة، وكان ردى على ذلك هو مذكرة إضافية بضرورة صدور دستور جديد يؤسس لدولة جديدة، ولكن الآذان ساعتها، وربما حتى الآن، لم تكن مصغية. وكانت ملاحظاتى على الدستور، وفى ظنى كافة الدساتير السابقة واللاحقة أن فيها تناقضاً والتباساً بين مصدر السيادة، ومن ثم القوانين، وعما إذا كان ذلك للشعب أم للنصوص الشرعية. ولا أعتقد أن هناك حاجة الآن لمعرفة أن واحداً من أسباب الحالة السياسية الراهنة هو العجز عن حل هذا التناقض الذى تعود جذوره إلى بداية الدولة المصرية فى دستور عام ١٩٢٣، ومن وقتها فإن الأمر يتوقف على ما تتجه إليه السلطة المهيمنة، فإما تأخذه فى اتجاه مدنى تكون سيادة الشعب فيه واضحة، أو تأخذه فى اتجاه النصوص الشرعية ودولة الفقهاء كما جرى فى دستور ٢٠١٢.
الخطيئة الثانية توجد فى نصوص ليس لها دلالة فى العملية السياسية، فالأصل فى الدستور أنه فى النهاية «أبو القوانين»، والقوانين لا تكون إلا فيما هو عملى، وله أصل فى الواقع. فالقول مثلاً إن مصر جزء من الأمة العربية أو الإسلامية لا يعنى الكثير من الناحية العملية، فإذا ساءت العلاقات بين مصر ودولة عربية أو إسلامية لأسباب تتعلق بالأمن القومى أو المصالح المصرية العليا، فهل لا يجوز للسلطة المصرية دعوة السفير المصرى للتشاور أو حتى قطع العلاقات الدبلوماسية؟ وهل يمكن لمواطن مصرى فى هذه الحالة رفع قضية على الحكومة متهماً إياها بمخالفة الدستور؟
وفى دستور ١٩٧١ لم يكن الشعب المصرى جزءاً فقط من الأمة العربية، بل يسعى إلى وحدتها أيضاً، فماذا لو رفضت الدول العربية الأخرى الوحدة مع مصر، أو أنها فرضت عليها شروطاً مستحيلة لإجراء هذه الوحدة، فهل كانت الحكومة المعنية تحاكم، لأنها أهملت، ولم تطبق نصاً دستورياً؟ الأمر نفسه ينطبق على نصوص أخرى لها علاقة بالأسرة، وحقوق المرأة، حيث تختلط النصوص الدستورية بالسياسات العملية التى لها تكاليف لا يدركها، أو يعبر عنها النص الدستورى.
الخطيئة الثالثة هى أن دستور ١٩٧١ والدساتير المصرية الأخرى السابقة واللاحقة تمسكت بذات الخطايا، وهى جعل مصر حالة استثنائية بعيدة عما تعرفه الدول من تقاليد دستورية أو سياسية. فنسبة العمال والفلاحين فى المجالس المنتخبة لم تعرفها دولة أخرى فى العالم، وإذا كانت هناك حاجة لها فما هى وظيفة باقى ممثلى الأمة إذا لم يكن واجبهم الدفاع عن العمال والفلاحين، أم مهمتهم سوف تكون الدفاع عما تبقى من الشعب؟ لم يعرف العالم أشياء أخرى اخترعناها، مثل المجالس المتخصصة، والمجلس القومى للمرأة، والمجلس القومى الحقوق الإنسان، والمجلس الأعلى للصحافة الذى يشرف على الصحافة القومية! وعشرات من المجالس القومية والعليا التى ورد بعضها نصاً فى الدستور أو استند البعض الآخر منها إلى نص دستورى، وفى الحالتين فإن النتيجة هى تضخم بيروقراطى مصاحب بضمور الأجهزة الأخرى فى الدولة والمنوط بها القيام بذات المهام. والمدهش أن التجربة أثبتت أن وجود النص الدستورى مضافا له وجود المجالس الوطنية والقومية والعليا لم تؤد أياً من الرسائل النبيلة التى قادت إليها، ولم تكن النتيجة هى الفشل فقط، بل كان غياب المصداقية عن النص.
الخطيئة الرابعة هى خطيئة الخطايا، فالحقيقة أنه لا يوجد أمر أدعى لبث التناقض وعدم الاتساق، ويفتح الباب لكافة أنواع البهلوانيات الفقهية، والأكروبات القانونية، قدر «خلطة» النظام «السياسى البرلماسى»، والذى يحاول الجمع بين النظامين «البرلمانى والرئاسى» فى الحكم. هذا النظام الذى ساد البلاد على مدى نصف قرن لم يفتح الباب فقط لزيادة المركزية فى يد السلطة السياسية العليا (رئيس الجمهورية) بل أدى معها إلى ظهور طائفة من فقهاء القانون لديها القدرة الهائلة على تحليل ما هو غير قابل للتحليل، وتحريم ما ليس قابلاً للتحريم انطلاقاً من الدروب الغامضة للنظام المختلط المشتق من التجربة السياسية الفرنسية غير السعيدة بالمرة (دفاع عن الجمهورية الرئاسية، الأهرام، ٢٠/ ٢/ ٢٠٠٦).
هذه الخطايا الأربع لاتزال تطاردنا حتى اليوم بعدما يقرب من قرن من المطاردة، وفى دستور ١٩٢٣ كان التناقض ما بين شرعية الملك الوراثية، وشرعية رئيس الوزراء المنتخب سبباً فى أن «الفترة الليبرالية» فى التاريخ المصرى لم تعرف الديمقراطية لأكثر من سبع سنوات استثنائية. ورغم الحديث عن النظام «البرلماسى» فى دساتير ١٩٥٦ و١٩٥٨ و١٩٦٤ و١٩٧١ فإن المحصلة النهائية هى تركز السلطة فى يد رئيس غير مسؤول. ومن المدهش أن الأمر كله جرى تكراره فى دستور ٢٠١٢، وانتهى الأمر إلى أن الرئيس السابق والآخر الأسبق تجرى محاكمتهما لأسباب لا علاقة لها بسلطاتهما الدستورية. والآن لم يعد هناك بد من النظر للأمر الدستورى بعيون أخرى بعيدة عن الخطايا والمعاصى التى عانينا منها فى السابق. فالدستور هو الوثيقة الخاصة بإدارة العلاقة بين المدنيين فى الحكم والمحكومين من أفراد الشعب، ويفترض فى هذه الإدارة أن تتمتع بالكفاءة والقدرة على الإنجاز، وكفالة تداول السلطة، ومنع الاستبداد، وحماية البلاد من الفوضى، وحماية الحريات الأساسية للمواطنين. والحديث متصل.