من الصعب فى مثل هذه الظروف التى نعيشها أن يقول أحد رأيه فيما جرى ويجرى على الساحة دون أن يكون هدفاً لمدفعية ثقيلة تأتيه من هذا الطرف أو ذاك، نظراً لحالة الاحتقان والاستقطاب الحادة التى يعانى منها المجتمع بشكل عام.. ومن ثم، فإن أى كاتب أو باحث يعمل حساباً لهذه المدفعية، معناه ألا يقول رأيه مهما كانت قناعته بصوابه.. لذا، يؤثر البعض من الكتاب الصمت، أو الكتابة فى موضوعات لا علاقة لها بالقضايا المثارة.. وبذلك يفقد المجتمع حلاً أو رأياً قد يكون له إسهامه فى علاج مشكلة أو تصويب موقف.. لاشك أن الأوضاع التى نواجهها معقدة ومتشابكة ومتداخلة، نتيجة تراكم مشكلات كثيرة لم نجد لها حلاً فى وقتها.. على سبيل المثال، لدينا قتلى فى عهد كل من: مبارك، والمشير طنطاوى، والدكتور مرسى، والمستشار عدلى منصور، ولدينا تحقيقات بشأن هؤلاء القتلى لم تظهر نتائجها، وربما تتوارى خلف ستائر النسيان إلى أن يأذن الله تعالى بكشفها.. ولدينا قوى ثورية منشغلة بالنزاع حول ثورتى ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، وقوى حزبية (ليبرالية وقومية ويسارية) مختلفة حول الدستور الجديد والانتخابات النيابية والرئاسية القادمة، إضافة إلى جماعات وأحزاب إسلامية أصبحت تشكل هماً ثقيلاً، أمنياً وسياسياً وفكرياً، على حكومة عاجزة وفاشلة وغير قادرة على التعامل بحسم مع المشكلات القائمة.. ولدينا أزمة اقتصادية حادة، تأثرت فى جانب كبير منها، بأعمال العنف والإرهاب فى سيناء وفى غيرها، حيث سقط من جرائها قتلى من الجيش والشرطة.
سوف يقتصر حديثنا هنا عن الإخوان، على أساس اعتبارين، أولهما: أنهم الفصيل الأكبر، وثانيهما: لسابق معرفتى بهم.
وقد سمعنا مؤخراً أن هناك من يدعو لإجراء حوار فكرى مع شباب الإخوان العاديين، بهدف مراجعة أفكارهم.. هذه الدعوة يجب أن تضع أمامها أمرين، الأول: أن كثيراً من قيادات الإخوان موجودون الآن فى السجون، وبعضهم محال إلى محاكم جنايات، والثانى: الملاحقات الأمنية لقيادات الصفين الثالث والرابع للإخوان، وكلا الأمرين يلقى بظلال سلبية على أى حوار.. كما أن الداعين إليه لا يقدرون مدى الارتباط الفكرى والعاطفى والوجدانى بين هؤلاء الشباب وبين قياداتهم، خاصة مكتب الإرشاد..
إن أجيالاً من الإخوان تربوا على ثقافة السمع والطاعة والثقة فى القيادة على مدى عقود طويلة.. ساعد على ذلك: (١) تفانى قيادات الجماعة، إضافة إلى التضحيات الكبيرة التى قدمتها، والغبن الذى وقع عليها عبر سنين طويلة، من سجن واعتقال وتعذيب.. إلخ. (٢) المعاملة الطيبة التى يلقاها أفراد الصف من القيادات، فضلاً عن المتابعة لأحوال الأفراد والسؤال عنهم وعن أسرهم، خاصة أثناء فترات الاعتقال والحبس الاحتياطى. (٣) خاصية التكافل التى تبثها قيادات الجماعة بين الأفراد، سواء فى المناسبات الاجتماعية أو أثناء الاعتقال. (٤) أسلوب اختيار الأفراد والقيادات داخل الجماعة وفقاً لمبدأ «التوثيق والتضعيف». (٥) إن أعضاء مكتب الإرشاد هم النواة التى يلتف حولهم أفراد الصف، وبالتالى يمثلون- من الناحية الإدارية والتنظيمية- القلب بالنسبة للجماعة.
وقد ترتب على العوامل سالفة الذكر وجود قناعة كاملة لدى أفراد الصف بأن قيادات الجماعة هى المصدر الوحيد والموثوق به التى يأخذون منها الأوامر والتعليمات والتوجيهات، وأنها الأعلم والأحكم والأقدر على قيادة الجماعة، وذلك بما أتاح لها موقعها من اطلاع على كافة المعلومات والبيانات الخاصة بالجماعة وخططها وبرامجها.. وتزداد هذه القناعة فى أوقات الشدة، حيث يكون أفراد الصف أحوج ما يكونون إلى قيادات لها خبراتها العميقة وتجاربها الطويلة مع «المحن».
من ناحية أخرى، هناك بعض العوامل التى أثرت سلباً على هذه القيادات، يأتى فى مقدمتها: (١) أنها تربت فى ظل مناخ من التضييق والقمع والقهر، ولم تعتد العمل فى أجواء الحرية. (٢) أنها غير منفتحة على المجتمع، خاصة القوى السياسية والوطنية. (٣) افتقادها الرؤية والاستراتيجية. (٤) غياب الخبرة والتجربة مع مؤسسات الدولة. (٥) تماهيها مع الفصائل الإسلامية الأخرى، وعدم وقوفها بقوة ووضوح تجاه ممارسات العنف والإرهاب.
أخلص من ذلك إلى نقطتين مهمتين، الأولى: أنه لا جدوى من الحوار فى ظل ظروف الاحتقان الحالية، والثانية أنه لا بديل عن قيادات أخرى يتم فرزها من بين أفراد الصف.