ربما أكبر العقبات التى واجهت مصر خلال الأعوام الماضية تتلخص فى أن كل تيار سياسى أراد فرض واقع مرفوض بتاتا من قِبَل قطاعات واسعة من المجتمع، وإجراء تغييرات جذرية لا يمكن عكسها بسهولة، مما أدى لارتياب عميق من قِبَل قوى المجتمع الأخرى التى تحالفت ضده وتصادمت معه بعنف، فى ظل غياب إمكانية الحوار البنَّاء، المبنى على مراعاة المصلحة العامة والمرونة، وافتراض النوايا الحسنة من قِبَل الأطراف المعنية.. مما أدى تكراريا للفوضى والصراعات الدامية، فى ظل شلل وتحجر فكرى وغياب حتى النية النظرية الصادقة للوصول لحلول تتفادى العنف.
يمكن رصد الظاهرة المذكورة فى تصرفات نظام مبارك فى آخر أيامه، حيث رفض أى تنازل سياسى كان من الممكن أن يؤدى للتطور نحو مجتمع منفتح، وبدلا من ذلك تمسك بالأفق الضبابى، فى عملية توريث خائبة، صاحبتها أفعال استفزازية لفرض الأمر الواقع، وسحق أى رأى مخالف، تجسدت بطريقة فجة فى انتخابات 2010 البرلمانية.. ثم تابعنا نفس الظاهرة فى تحالف المجلس العسكرى الضمنى مع جماعة الإخوان، الذى انضمت له بعض القوى «الثورية»، دون أن تتدارك تداعيات هذا الاختيار أو تدرسها بدقة.. ثم فى فترة حكم مرسى، التى اتسمت بفرض ديكتاتورية الصندوق، انبثقت منها قرارات تمكين استثنائية ودستور تم فرضه بطريقة إقصائية.. ثم تفجرت تداعيات هذه الظاهرة فى الصدامات التى تلت 30 يونيو 2013، حيث تجسدت بطريقة فجة فى دمويتها. ليس هناك حلول سهلة لهذه المعضلة، لأن أساسها موجود فى طريقة نظرة الناس لواقعهم وتعاملاتهم اليومية، التى لا تأخذ عادة المصلحة العامة فى الاعتبار، إنما تسيطر عليها العصبية ومحاولة فرض الذات وهزيمة الآخر.. فنرى ذلك حتى فى الحالة الصراعية التى تسود مرور السيارات فى القاهرة، أو فى التعاملات التجارية البسيطة، حيث تجد منطق «هو اللى بيضحك عليا ولا انا اللى ضحكت عليه»، وفى زمن ماض فى عملية استغلال السائح، دون مراعاة أن هذا المنهج تضيع خلاله المصلحة العامة، فيخلق مناخا يتصارع فيه الكل على وجبة هزيلة، فى ظل اقتصاد مريض، لأن المناخ نفسه يعوق الإنتاج والإبداع.. فلا يلاحظ أحد تقريبا أن إعاقة المرور والصراعات اليومية المتراكمة نتيجة العصبية والعدوانية ومحاولات إقصاء واستغلال الآخر وإخضاعه ينتج عنها فى النهاية إضاعة وقت وتوتر يصيب الكل، ووضع مكبل للحركة لا يخدم الإنتاج والإبداع، ناهيك عن أخطار الحوادث (أو تطفيش السائح).
عندما تتبنى النخبة الفكرية والسياسية أيضا هذا المنهج، من الصعب بناء مجتمع تعددى مستقر.. والنخبة تتبناه لأنها تعرف أن هناك احتراما واسع النطاق له - بعد عقود عديدة من تقبل منطق القوة فى المجتمع - الوضع الذى يدعم سيادة قوى سياسية ترمى لإخضاع الآخر، ولا تأخذ فى الاعتبار تداعيات أفعالها وتأثيرها على تماسك وصحة المجتمع. فى هذا الإطار يتشرذم المجتمع لقبائل متصارعة، ويسود مناخ فوضوى تضيع خلاله استقلالية الفرد الذى يعرف نفسه أولاً، ويعرفه الآخر، كترس فى ماكينة قبيلته وليس ككيان مستقل ومصان، أى أن النهج الصراعى الذى يتبعه الفرد فى حياته اليومية يؤدى فى النهاية إلى فقدانه أى أمل فى العيش فى مجتمع يضمن له الحد الأدنى من الحرية والحياة الكريمة، ومساحة للإنتاج والإبداع.
إن تشابك دور الفرد والنخبة هكذا يشير إلى أن سبيل الخروج من المأزق لا يمكن أن يأتى فقط من «أعلى»، فالعاتق يقع أيضا على الفرد ومنهجه فى الحياة. فى هذا السياق، سردت «وصايا الليبرالية العشر» للفيلسوف برتراند راسل، فى المقال السابق، وهى موجهة للفرد العادى. أما هنا فأريد الإشارة إلى مثال قد يبدو غاية فى البساطة، رغم تداعياته واسعة النطاق. أدعو القارى إلى تأمل كيفية عمل موقع معلوماتى مثل «ويكيبيديا»، الذى يتيح الفرصة لأى شخص فى العالم ليضيف أو يحذف ما يشاء، مع افتراض حسن النية والمصداقية وإمكانية التوافق العقلانى.. أدعو القارئ إلى أن يتأمل كيف تصل معظم صفحات «ويكيبيديا» نتيجة لذلك إلى توافق عام يجمع ويعرض المعلومة بطريقة متزنة ومفيدة. إن إنتاج المعرفة هكذا - أو تلخيصها بطريقة مقبولة - سيكون بالقطع من المستحيل إذا حاول معظم كتاب «ويكيبيديا» إقصاء الآخر وفرض الرأى، دون تفعيل أداة النقد والأدلة، ودون الجدية والمصداقية فى محاولة تحسين الموقع.. المجتمع الذى لا يتبنى هذا النهج لا يجيد إنتاج المعرفة وتقييم الرأى، والنظام السياسى الذى لا يدعم ذلك يظل راكدا، أو يتهالك وينهار تحت وطأة الصراعات العبثية.