أما المشهد الجلل فِى التَّارِيخ الإِسْلاَمىّ فكان عِنْدَمَا جمع مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان أمراءه ورجاله ليستفتيَهم فِى عقد البيعة لابنه يزيد باعتبار أن ما يفعله سيكفى الأمة الإِسْلَامية الحرب وسفك الدماء، وكان لمُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان نظرية فِى الملك وَهِىَ أن سيدنا عُمَر بْن الْخَطَّابِ أخطأ عِنْدَمَا رشّح ستة إِلَى الخِلاَفَة فأصبح هُنَاك أكثر من شخص يطمح إِلَى الخِلاَفَة، ومن ثم كَانَ يرى أن هَذِهِ النقطة هِىَ الَّتِى أسقطت هيبة دم المُسْلِمِين ووزن أى شخص يمكن أن يطمح فِى المنصب فيحدث بينهما سفك دماء، وكانت هَذِهِ النظرية لتبرير توريث مُعَاوِيَة للعرش بعده.
أما الداهية الرابعة فكان زياد بْن أبيه، الَّذِى كَانَ صعبًا عنيدًا، رغم أنه أخ لمُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان وكان مُعَاوِيَة يتمنى مبايعة زياد لَهُ، فرغم أنه أخوه فإنه كَانَ منزوع النسب مرفوضَ انتمائه إِلَى آل سفيان، وكان ذَلِكَ جزءًا من اعتمال الغضب داخله على مُعَاوِيَة وعلى رغبته فِى انتزاع الخِلَافَة من سيدنا علىّ بْن أَبِى طالب وكان فِى تقدير مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان أَنْ يَكُونَ زياد أول من يبايعه، لأَنَّهُ شرعى لأبى سفيان، لكن علىّ بْن أَبِى طالب ولّى زياد بْن أبيه على فارس فأرسل إليه مُعَاوِيَة يتوعده فقام زياد فِى النَّاس خطيبا وأغلظ القول والجواب ورد الوعيد بمثله على مسمع من أعوان مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان ورؤوس أتباعه فقال: «العجب كل العجاب من ابن آكَلَة الأكباد، والمقصود هند آكلة كبد حمزة بْن عبد المطلب عم النَّبِىّ بعد أن قتله وحشى فِى مَعْرَكَة أحد، ورأس النفاق يخوِّفنى ويقف بينى وبين ابْن عَمّ رَسُول الله وإمام المهاجرين والأنصار، ألا والله لو أذِن لِى فِى لقائه لوجدنى ضرّابا بالسيف».
تنم الخطبة عن مشاعر الأخ الغاضب لعدم الاعتراف بِهِ من الأسرة فأخذ زياد يعيِّر مُعَاوِيَة بأمه عَلَى الرَّغْمِ من أنها أسلمت وأسلم الجميع، والمعروف أن الإِسْلاَم يجُبُّ ما قبله. لكن المسألة وصلت إِلَى ذَلِكَ الحد من الحدة فكتب مُعَاوِيَة إِلَى زياد يلين لَهُ القول ويرجوه فقال: «إِلَى زياد بْن أَبِى سفيان -وَهُوَ الاعتراف بنسب زياد إِلَى أبى سفيان الَّذِى يتمناه- وكأنك لست أخى وليس ابْنُ حرب أباك وأبى وشتان ما بينى وبينك. أطالب بدم عُثْمَان بْن عَفَّانَ وأنت تقاتلنى -من الواضح سيطرة حالة الرغبة فِى استمالة زياد بْن أبيه على الخطاب لأَنَّهُ يعرف ما يمكن أن يفعله زياد- لو خضت البحر فِى طاعة القوم -يقصد قوم علىّ بْن أَبِى طالب- فتضرب بالسيف حَتَّى ينقطع متنُه- أى ينكسر سيفك من كثرة الضرب- لما ازددت منهم إلا بُعدًا فارجع رحمك الله، إِلَى أصلك واتصل بقومك ولا تكن كالموصول يطير بريش غيره، فقد أصبحت ضالَّ النسب، فإن أحببت جانبى ووثقت بى فأتمر بأمرى وإن لم تثق بقولى ففعل لاَ لِى ولا لعلى».
كَانَ هَذَا هُوَ كل ما يطلبه مُعَاوِيَة من زياد بْن أبيه الداهية فِى كل صغيرة وكبيرة. أخذ يقدم لَهُ الإغراءات والمبررات ليستميله إِلَى جانبه أو ليحيده «ففعل جميل لاَ لِى ولا لعلى» لكن مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان ظل قلِقًا من زياد حَتَّى مقتل سيدنا علىّ بْن أَبِى طالب، ولم يأمن مَكْرَه وجرأته حَتَّى توسط بينهما المغيرة بْن شعبة ليشتد ساعد المغيرة بتحالفه مع زياد بْن أبيه فِى مواجهة عَمْرو بْن الْعَاصِ.
وأخيرًا استجاب زياد للمغيرة فِى أمر البيعة لمُعَاوِيَة وبعد ذَلِكَ كَانَ موقف زياد بْن أَبِى سفيان واضحًا فِى الانتقال من مناصرة سيدنا علىّ بْن أَبِى طالب وتأييده، إِلَى بيعة مُعَاوِيَة، وبذَلِكَ أصبح آخر من بايع وبوساطة من المغيرة بْن شعبة. لكن عِنْدَمَا بدأ الكلام يتردد عن عقد البيعة ليزيد بْن مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان كَانَ زياد حادًّا فِى رفضه إلا أنه تُوُفِّىَ قبل إتمام هَذَا الأمر وإعلان مبايعة يزيد مَلِكًا أو خليفةً أو حاكمًا للمسلمين، وَهُوَ ما يدهشك فِى تاريخنا المعاصر، لأَنَّهُ حَتَّى إذا عاش زياد بْن أبيه كَانَ من الْمُمْكِن أن لا تسير الأمور كما سارت، لأن زياد بْن أبيه على ذكائه وقدرته العقلية كَانَ حادَّ اللفظ. وفى مواجهة ولاية العهد ليزيد بْن مُعَاوِيَة، فهل تظن أن هَذَا الصراع هُوَ صراع مجهول النسب غير المعترف بِهِ فِى مواجهة الَّذِينَ استأثروا بالأسرة والسلطة وأصبح شأنهم عَظِيمًا عاليًا؟ احتمال وارد.