تخيلى نفسك إنسانة لا تقرأ ولا تكتب. ما الباءُ بالنسبة لك، وما الميم، وما الكاف؟ مجرد أصوات. إذن ما الصوت؟ هل يمكن استعادته بدون الأجهزة الحديثة؟ هل يمكن التأكد تماما مما قال فلان قبل سنة، أو سنتين؟ أبدا.
أريد أن ألفت نظرك إلى هذه الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ». بالنسبة لى، هذه الآية ثورة فى كيفية إدارة الأعمال بين الأميين. وفى سياق موضوعنا عن الأمية والكتابية، فإنه إجراء يقول للأميين إنكم لا تديرون الأمور بالطريقة الصحيحة. إنكم تديرون الأمور شفاهة، والشفاهة مجرد صوت يضيع فى الهواء. لا بد من الكتابة. لا بد من التدوين. لاحظى كم مرة وردت اشتقاقات الفعل كتب، فى هذه الآية من كتاب بُعِث به أمىٌّ إلى أميين!! تخيلى قانونا يصدر حالا يلزم الدوائر الحكومية المصرية بإبطال التعامل بالورق وتحولها إلى ما صار يعرف بـ «الحكومة الإلكترونية»!
ما قيمة هذا؟ هذا هو السؤال الذى أحاول طوال الأسبوع الماضى الإجابة عنه: الأديان نزلت على أميين، بمعارف كانوا يعرفون كثيرا منها سابقا، لكن مهمتهم الأعظم كانت نقلهم إلى الكتابية. وكان المفترض، لو فقهوا وفهموا، أن تتطور هذه المعرفة بالاستفادة من خصائص التدوين وهى: المراجعة، والتدقيق، والتمحيص، والتراكم، والتقويم. بدون ذلك تصير الكتابة مجرد نقش حروف. الآن، أليست هذه الخصائص هى بالضبط ما يُسب ويُلعن كل من يدعو إليها؟
هل وضحت فكرتى إذن؟ هل لاحظت الفرق بين «دين» الأميين و«دين» المتعلمين؟
النبى نهى عن تدوين أحاديثه. كان يدرك أن الكتابة ستجعل معارفه الأمية فى أمور الدنيا عرضة للتمحيص والمراجعة من بعد. ومن ثم يعرضه ذلك للتشكيك فيه كنبى. رغم أنه بكل وضوح أخبر أمته بذلك فقال لها: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». بل اسمعى إلى قول على بن أبى طالب: «حدِّثوا الناس بما يعرفون. أتريدون أن يُكذَّبَ اللهُ ورسوله؟» قاصرو العقول من شيوخ الأميين فسروا هذه المقولة على واحد من وجهيها فقط. وهو الوجه الذى يعنى تجنب مخاطبة الناس بمعارف أعلى من إدراكهم. وما ذلك إلا لأنهم يتعاملون مع جمهور من الأميين. ويفترضون فيه أن يبقى أميا.
طيب، وماذا عن الوجه الآخر؟! ماذا عن مخاطبة الناس بمعارف أقل كثيرا فى مستواها عما يعرفون. ماذا عن مخاطبة من لهم دراية بعلم الفلك بمعارف لا يملكون إزاءها إلا الضحك! وماذا عن مخاطبة الفيزيائيين بمعارف تفقدهم إحساسهم بالجاذبية الأرضية! أليس هذا مدعاة لتكذيب الله ورسوله؟! بصراحة، بلى. وأنتم يا شيوخ الأميين المسؤولون عن ذلك.
إن الذين اكتسبوا سلطتهم ومقامهم بين الناس من التكسب من حفظ الأحايث، ثم اخترعوا كهنوتا طالما تباهى الإسلام بأنه لا يعرفه، هؤلاء ليس بوارد أبدا أن يقدموا على تجديد فى الفكر الدينى الإسلامى يفقدهم مقامهم والتليفزيونات المفتوحة لهم وفوق ذلك سلطتهم على الخلق. ليس بوارد. ولذلك يحاولون أن يحلوا المشكلة بما يحفظ لهم كل ما سبق. كيف؟ بمنع الناس من ممارسة خصائص الكتابية (خصائص مجتمع المتعلمين) التى أشرت إليها أعلاه. لكن مَنْعَ العاقلة من التصريح بما يحيك فى صدرها من تساؤلات، لن يمنعها من التفكير فيها. ولا حتى التهديد بالقتل سيمنعها. إنما سيخلق أمة من المنافقين، الخائفين، المرتعدين، الذين يقولون بأفواههم ما لا تؤمن به قلوبهم. إن هؤلاء لفى الدرك الأسفل فى الدنيا. إن هؤلاء نحن، لا أحد آخر. لقد فتن رجالُ الدين الناسَ فى دينها بالإصرار على تقديم معارف الأميين على أنها دين وعقيدة وركن إيمان. فلم يبق إلى جانبهم سوى شرار الإبل، الأميين معرفيا، الجهلة، والانتهازيين، أو الراغبين فى سلطة سهلة. إن متوسط القراءة فى العالم العربى ٦ دقائق فى السنة (فى مقابل ١٢٠٠٠ دقيقة، فى الدول الغربية). هل من دليل أكبر من ذلك على الأمية ورسوخها وترسيخها فى مجتمعنا؟
تحدثت إليك، فى ستة أيام، عن العالم الذى خلقه الأميون. غدًا راحة. ثم موعدنا مع «صدمة الأميين».