لا أعرف كم شخصاً غيرى استرعت انتباهه هذه الملاحظة، لا أعرف أيضاً لماذا لم أكتبها فى وقتها، لعلها بقايا حذر من تناول أى أخبار تتعلق بالقوات المسلحة من قريب أو بعيد، فلا شك أن جيلى كانت لديه محاذير كثيرة جداً فى هذا الشأن، خاصة وقد عاصرت شخصياً قضية لزميل كان محرراً عسكرياً لجريدة الشعب، وسافر هذا الزميل إلى فرنسا فى رحلة عمل مع شخصية عسكرية كبيرة- كنا فى أوائل التسعينيات تقريباً- وأثناء الرحلة أدلى المسؤول العسكرى بتصريحات إلى راديو مونت كارلو، فقام زميلنا بنقل هذا الحوار الذى تمت إذاعته بالفعل فى الراديو، ونشره فى صحيفة الشعب، دون الحصول على إذن مسبق من القوات المسلحة على اعتبار أنه منقول من راديو مونت كارلو، لكن ما جرى بعد ذلك يدلك بوضوح على الخطوط الحمراء التى كانت تضعها المؤسسة العسكرية على كل ما يتعلق بها من أخبار، فقد حُكِم على زميلنا بالسجن ثلاث سنوات لقيامه بنشر تصريحات لمسؤول عسكرى دون الحصول على موافقة المخابرات الحربية.. وأمضى الزميل عاماً كاملاً فى السجن، لم تتوقف خلاله جهود نقيب الصحفيين وقتها الأستاذ إبراهيم نافع للإفراج عنه، حتى نجح فى استعطاف المؤسسة العسكرية لتكتفى بالمدة التى قضاها زميلنا فى السجن، وتفرج عنه.
إلى هذا الحد وأكثر كانت هناك حساسية شديدة فى تناول أى أمر يخص الجيش، ولم تكن فى أدبياتنا افتكاسات من نوعية أن المجلس العسكرى شىء، والجيش شىء آخر، أو أننا نتكلم عن الدور السياسى الذى يحتمل النقد، إلى آخر هذه العبارات المطاطة الغريبة على ثقافتنا فى مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير.. وفى ظنى أنه لم يكن طبيعياً أن أتحرر من هذه الثقافة فى يوم وليلة لأنضم إلى صفوف زملاء لنا استباحوا التقوُّل على الجيش وقياداته، إذ إن قليلاً من الصدق مع النفس، ومع ما تعلمته على مدى سنين يجعلك مخلصاً لفكرة نشأت عليها، ولسلوك عام يعتبر القوات المسلحة رمزاً للكرامة والعزة لا يجوز أن تمسه بسوء حتى وإن كانت لديك بعض الملاحظات على أدائها، ومن هنا لم أستطع أن أكتب هذه الملاحظة التى ترجع إلى يوم 28 يناير 2011 المعروف إعلامياً بـ«جمعة الغضب» وهو اليوم الذى نزلت فيه قوات الجيش إلى الشوارع فى محاولة لفرض الأمن الذى انفلت، كانت الجماهير وقتها تشعر أن ظهرها مكشوف، وتنتظر اللحظة التى ينزل فيها الجيش لحمايتها، وأدهشنى جداً مشهد أول مدرعة للجيش ينقل التليفزيون المصرى صورها على الهواء، كانت فى طريقها إلى مبنى ماسبيرو، وأصابها عطل، فتوقفت، وتجمع عدد من المتظاهرين خلف المدرعة «يدوها زقة».. ساعتها تساءلت بينى وبين نفسى: هو مين اللى جاى يحمى مين؟ وتذكرت على الفور المثل الشعبى الشهير: «جبتك يا عبدالمعين تعينى، لقيتك يا عبد المعين عايز تتعان».
المشهد على «كوميديته» كان له معان كثيرة، لعل أقربها إلى الذهن أن هذه القوات لم تكن مستعدة لتؤدى هذه المهمة، ومن ثم لم تكن توقعاتى إيجابية تجاه المرحلة الانتقالية الأولى، ومرت الأيام وجرت فى نهر الحياة مياه كثيرة، لعل أفضل ما أثمرته هو إعادة تأهيل القوات المسلحة، تجديد دمائها وتحديث معداتها، والاهتمام بتدريبها لتكون على درجة من الكفاءة تتفق مع سمعتها وتاريخها. تذكر كيف كانت الطائرات تحمى الميادين فى 30 يونيو، قارن بين مشهد المدرعة «العطلانة» ومشهد الطائرة، مؤكد أن هذا لن يرضى التنظيم الدولى للإخوان، الذين يفتشون فى كتب السحر عن وصفة تصنع فتنة بين قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح السيسى وبين الشعب، يستخدمون فى ذلك كل الوسائل بدءا من التسريبات ووصولاً إلى فبركة الحوارات، صحيح أنهم لا يمثلون القاعدة العريضة من المصريين.. فلكل قاعدة «شواذ».. وأمريكا هى أكبر دولة ترعى حقوق الشواذ.