لما أراد مُعَاوِيَة أن يعهد بولاية الكوفة وقد أصبح أميرا للمؤمنين وخليفة للمسلمين قرر أن يعطيها لعَبْد اللهِ بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ وَهُوَ من الأتقياء الأنقياء فِى التَّارِيخ الإِسْلاَمىّ، فقرر المغيرة بْن شعبة أن يُعمل ذكاءه وأن يخوض فِى الأمر بكل ما يملك من فطنة وسياسة وحلم وطموح لولاية الكوفة فذهب إِلَى مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان وقال لَهُ: «أتستعمل عَبْد اللهِ بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ على الكوفة، ووالده على مصر، إنك بين نابَى الأسد» فاستمع لَهُ مُعَاوِيَة وعزل عَبْد اللهِ بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ وولى المغيرة بْن شعبة مكانه على الكوفة فسمع عَمْرو بْن الْعَاصِ بهَذَا الخبر وتلك المكيدة فردها بمثلها فلم يطلب إعادة ابنه عَبْد اللهِ إِلَى ولاية الكوفة، وَإِنَّمَا قنع بحرمان المغيرة من ولاية الخراج. أخذ مِنْهُ وزارة المالية والقدرة على جمع الأموال فقال لأَمِير الْمُؤْمِنِين والخليفة الجديد مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان: «إنك تستعمل المغيرة على الخراج فيأخذه ولا تستطيع أن تنتزعه مِنْهُ، أرى أن تولى على الخراج رجلا يخافك ولا يبالى بأحد إلا بِكَ وتؤمر المغيرة بْن شعبة على الصلاة والإِمَارَة فلا يقوى عليك بغير مال» فكانت الاستجابة من مُعَاوِيَة واتبع مشورته غير كالٍّ، فالمشورة لم تكسبه السيطرة الكاملة على أموال الكوفة فحسب، وَإِنَّمَا أربحته عداء وتنافس المغيرة بْن شعبة وعَمْرو بْن الْعَاصِ أَيْضًا.
وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيع أن يأمن أن يتحالف الاثنان عَلَيْهِ فاستقر الأمر لمُعَاوِيَة وهان عَلَيْهِ خطب المغيرة فقرر عزله وعِنْدَمَا وصل الخبر إِلَى المغيرة من عيونه حول مُعَاوِيَة. فوراء كل رجل سِيَاسِىّ ذكى رجل يجلب لَهُ المعلومات من العيون والجواسيس أو الأصدقاء ذوى النفوذ والأمر. وصل المغيرة بْن شعبة أن مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان قرر عزله بعد أن أخذ مِنْهُ ولاية الخراج فأصبح أسدا بلا أنياب تسهل الإطاحة بِهِ، وكان مُعَاوِيَة يريد أن يطيح بالذين ساندوه فِى هَذِهِ الولاية، وهَذَا العرش حَتَّى يظل لَهُ ولم يكُن يَسْتَطِيع عزل عَمْرو بْن الْعَاصِ، لأن بينهما عقدا مكتوبا، وشرط الطاعة معلق بولاية مصر، فقرر البدء بعزل المغيرة بْن شعبة فأشفق المغيرة من مذلة العزل فآثر أن يذهب إِلَى مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان وأن يحتال حيلته قرر أن يعمل فِى حل المعضلات كيف يجبر مُعَاوِيَة على استبقائه؟ ذهب المغيرة بْن شعبة إِلَى دمشق عاصمة الخِلافَة الإِسْلَامية وقتئذ ولكنه لم يلتق بمُعَاوِيَة وَإِنَّمَا التقى بابنه يزيد الأمير المرفه، ابن الخليفة الَّذِى لم يشتهر بعلم أو تقوى ولا بأى شىء سوى أنه اشتهر فى ما بعد بأنه أمير للمؤمنين.. التقى المغيرة بْن شعبة بيزيد بْن مُعَاوِيَة ووسوس إليه أن يطلب إِلَى أبيه تسميته لولاية العهد وبدأ المغيرة فِى دق المسمار فِى النعش.
وبدأت فكرة ولاية العهد وتحويل الخِلَافَة الإِسْلَامية إِلَى ملك عضود وإِلَى ملِك يورث ابنه، وتحول الأمة الإِسْلَامية من الخِلَافَة إِلَى المملكة من شخص أراد أن يظل واليا فِى مكانه. رجل ذكى قرر أنه لا خير من بيع الأمة كلها مقابل أن يظل فِى مكانه عِنْدَمَا زين المغيرة بْن شعبة الأمر إِلَى يزيد بْن مُعَاوِيَة كَانَ لَهُ مقاصد كثيرة ولم يكُن يتصور أن الاستجابة ستكون فورية، قَالَ بْن شعبة إِلَى يزيد بْن مُعَاوِيَة: «إن أصحاب النَّبِىّ وكبراء قريش قد ذهبوا وبقى الأبناء وأنت أفضلهم فلا أدرى ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لَكَ البيعة» فلمعت المسألة وبرقت فِى عين يزيد وقال لَهُ: «أترى ذَلِكَ ممكنا؟» فقال المغيرة بْن شعبة: «نعم».
ما حدث بعد ذَلِكَ طبيعى ومنطقى، وَهُوَ أن دخل يزيد على أبيه مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان وأخبره بمقالة المغيرة فأرسل مُعَاوِيَة فِى طلب المغيرة من فوره ليناقشه فِى حَقِيقَة الخبر والعرض الَّذِى قدمه إِلَى يزيد فقال لَهُ: «ما هَذَا الَّذِى تَقُوله ليزيد؟» فقال المغيرة: «إنى يا أَمِير الْمُؤْمِنِين قد رأيت ما رأيت من سفك الدماء بعد عُثْمَان ويزيد منك فأحضره واْعقد لَهُ البيعة فلا تكون فتنة» فقال مُعَاوِيَة: «ومن لِى بهَذَا؟» فقال ابْن شعبة: «أكفيك أنا أهل الكوفة ويكفيك زياد أهل البصرة وليس بين هذين المصرَين أحد يخالفك» لمعت الفكرة فِى ذهن مُعَاوِيَة فأمره بأن يرجع إِلَى الكوفة وأن يتحدث مع ثقاته فِى ذَلِكَ. يرجع تحديد ابْن شعبة للبصرة والكوفة إِلَى اعتبارين، الأول أن العراق كَانَ هواها منذ اللحظة الأولى مع علىّ بْن أَبِى طالب وكانت تنتصر لَهُ، صحيح أنها خذلته هَذَا الخذلان الكَبِير لكن ظلت هَذِهِ المشاعر والقناعات لدى أهل العراق. لذا كَانَ تركيز المغيرة بْن شعبة على هذين المصرَين باعتبارهما بؤر الخطر وهكذا ربح المغيرة ولم يخسر، وكما يَقُولون باع السمك فِى البحر، فإذا أعرض مُعَاوِيَة عن عقد البيعة لابنه -وَهُوَ أمر مبتعد- فيكون المكسب أنه فرق بين مُعَاوِيَة وابنه يزيد الَّذِى سينقِم عَلَيْهِ ويغضب مِنْهُ، وفى هَذِهِ الحالة يتحقق انتقام المغيرة من مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان بأن أوغر صدر ابنه يزيد عَلَيْهِ، وإذا وافق مُعَاوِيَة على الفكرة وبرقت أمام عينه ولمعت سيكون المكسب أنه صاحب الفكرة وأنه الَّذِى سيَتَوَلَّى التخطيط.