فى الأعياد تزورنى الذكريات، ويغمرنى الحنين إلى الماضى، فالماضى يأتيك خالياً من الألم فياضاً بالشجن.
ماذا يبقى من عيد التضحية بعد الذبح؟.. بضعة أكياس بلاستيك بها لحم الأضحية قابعة فى فريزر الثلاجة تنتظر مستحقيها، وتتحول إلى وجبات عائلية يتحلق حولها الغائبون الحاضرون. أيام العيد لم يعد لها وهجها القديم، سرعان ما ينتهى يوم العيلة لتبدأ أيام الشلة عند الشباب، لم يعد الآباء قادرين على حجز أولادهم ليقوموا بالزيارات العائلية، أو يستقبلوا زوار البيت، رسائل الموبايل مدفوعة الثمن، ورسائل الـ«فيس بوك» المجانية أصبحت بديلا عن الزيارات التليفونية، حتى الصوت لم يعد له مكان، فقط كلمات محفوظة، أو صور من النت لكارت معايدة لتقول للمعارف والأصدقاء إنك تتذكرهم فى المناسبات ودمتم.
العيدان: الفطر والأضحى مرا على استحياء هذا العام، فالأجواء فى مصر بها الكثير من الغيوم، وعدم وضوح الرؤية، بالإضافة إلى الشائعات، التى تروج لحساب بعض الجهات ذات المصالح، ويقف المواطن البسيط حائرا لا يعرف ماذا سيكون عليه الغد، ومتى يستقر الحال، ويعود الجميع لحضن الوطن، الذى يئن من أنانية بعض أبنائه، ورغبتهم فى الاستئثار على حسابه، الكل يريد أن يحقق مصالحه، ولا أحد يفكر فى التضحية من أجل الآخرين، ولا يجول برأس أحد أن العيد للتضحية، وليس مجرد ذبح أضحية. لقد أكلنا المعنى الحقيقى للعيد، وحولناه ليوم تتوفر فيه اللحوم على الموائد، ولا تتوفر فيه الأحاسيس والمشاعر، أتذكر سيدنا إبراهيم وقلبه ينفطر على ابنه، الذى كاد يذبحه امتثالا لأمر الله «قَالَ يَا بُنَى إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى»، هل كانت عيناه دامعتين أم أن الإيمان كان يعطيه من الصلابة ما يجعله قويا صامدا، وابنه الذى مد عنقه أمام أبيه الشيخ المسن منتظرا بصبر واحتساب لحظة مفارقة الحياة يرد بإيمان (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، أراد الله أن يختبر الأب وابنه فنجحا فى الاختبار وسلما تسليما، التتمة معروفة، أنزل الله الكبش ليفتدى به إسماعيل، ويقوم المسلمون كل عام باستعادة الحدث لعلهم يتذكرون، ولكن تغيب عنا الحكمة وراء الحدث، ويتصدر المشهد الطقس، قيمة التضحية تتقزم أمام معانى الأنانية.
الصورة أصبحت بديلا عن الحقيقة، والمظاهر بديلا عن المضمون، والأشياء تبدو فى النهاية متشابهة رغم أن جذورها مختلفة، نحن فى أشد الحاجة للمراجعة، مراجعة المجتمع لنفسه وأهدافه العامة وقيمه وأولوياته ومراجعة كل منا ذاته، وعلاقاته ومنظومة قيمه التى تتحكم فى سلوكياته، فى النهاية المجتمع هو محصلة لأفراده، فلا تتوقع أن يتغير المجتمع بعد الثورة طالما أن التغير لم يصيبك فى حياتك الخاصة والعامة، فمازلنا نتعامل بنفس قيم ما قبل الثورة، ونتصور أن للثورة يدا ورجلا قادرة على التغيير دون أن نتغير، يذكرنى وضعنا بقصة قديمة عن سكان قرية صغيرة فقيرة أرادوا أن يقدموا هدية لحاكمهم الجديد، ولم يكن لديهم إلا اللبن ليقدموه، وقرروا أن يضع كل بيت كوب لبن فى الجرة التى ستقدم للحاكم، وامتلأت الجرة.. ولكن بالماء وليس باللبن، فكل بيت أراد أن يتنصل من واجبه سرا، واستبدل نصيبه من اللبن بالماء، ولم يتصور أحد أن أمره سيفتضح، فكوب من الماء لن يؤثر على جرة من اللبن. كلنا نتصور أن سلوكنا الشخصى لن يؤثر فى السلوك العام، كلنا نسكب سلبياتنا فى جرة الوطن، ونتصور أننا سنجنى خيرا.
افرحوا بالعيد، ولكن تأملوا أيضا لماذا صار عيدا، ودمتم بصحة وخير وسلام يا أهل مصر الكرام.