أما المغيرة بْن شعبة فيمكنك وصفه بأنه يَسْتَطِيع بيع سمكٍ فِى البحر ويشترى بِهِ سمكًا مطبوخًا شهيًّا، فكان ذكيًّا فِى المعضلات. كَانَ عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ قد عزل المغيرة بْن شعبة عن ولاية الكوفة لأن قوما شاهدوه يضاجع امرأة غير امرأته وحدثت الواقعة الشهيرة الَّتِى أقر فِيهَا أربعة شهود أنهم شاهدوه يواقع امرأة غير امرأته أى يلزم تطبيق حد الزنى عَلَيْهِ، لكن المغيرة بْن شعبة قَالَ إنه قد التبس الأمر على الناظرين لشبه بين المرأتين وإنه كَانَ مع زوجته، ولم يثبت التهمة لعدول أحد الشُّهَدَاء وَهُوَ مُحَمَّد بْن أَبِى بكر عن الشهادة.
وقال إنه يشك فى ما رآه، فجُلد وأُعفِىَ المغيرة بْن شعبة من التهمة لأنها لم تثبت عَلَيْهِ ثبوتًا يوجب إقامة الحد، لكنها أَيْضًا لم تسقط عَنْهُ سقوطًا يزيل الشبهة، فكان الأمر يستحق هَذَا القرار العمرى بعزل المغيرة بْن شعبة.
وأبقاه عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ زمنًا بغير عمل على الإطلاق، كأنه يريد استتابته حَتَّى قرر أن يعيده فدعاه إليه وشدد عَلَيْهِ أن يتجنب الشبهات وولّاه الكوفة مرة أخرى. فلما تولى عُثْمَان بْن عَفَّانَ الخِلاَفَة عزله وعِنْدَمَا قتل عُثْمَان وبويع لعلىٍّ الخِلاَفَة فِى المَدِينَة ذهب إليه المغيرة بْن شعبة للتقرب إليه زُلفَى ونصحه بأن يُقِرّ مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان المُطالِب بدم عُثْمَان بْن عَفَّانَ على ولاية الشام ليدين لَهُ بالولاء، وبعد أن تمر الأزمة يعزله متى شاء، لكن الإمام علىَّ بْن أَبِى طالب رفض أن يقره على ذَلِكَ وكانت نصيحة ابْن شعبة مليئة بالسياسة إذ كَانَت موهبة ابْن شعبة الرئيسية العمل بالسياسة، فرجع المغيرة بْن شعبة فِى اليوم التالى وقال لسيدنا علىّ بْن أَبِى طالب «إنى كنت أشرف عليك بالَّذِى أشرف وَهُوَ أن تُبقِى مُعَاوِيَة واليًا على الشام، فرفضت وخالفتنى فِيهِ، ثم علمت أن الصواب فى ما رأيت فاعزلهم -اعزل كل ولاة عُثْمَان- واستعمل ممن تثق بهم فإنهم أهون شوكة مما كَانَ»،
وكأن نصيحة بْن شعبة معناها «إذا كنت قد قررت أن تخسر أحدا فاخسر الجميع»، وعاد المغيرة بْن شعبة إِلَى عزلته بعد هَذِهِ النصيحة الَّتِى ربما أسهمت فِى قسمة الأمة. وبعد أن انتهت الأمور إِلَى أن ولّى عَمْرو بْن الْعَاصِ تَقْرِيبًا مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان الخِلاَفَةَ وأبقاه على الإِمَارَة فِى مواجهة على بْن أَبِى طالب، الَّذِى خلعه مندوبه أبو موسى الأشعرى قرر المغيرة بْن شعبة بعد رجحان كفة مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان أن يذهب إِلَى الشام وينتمى إلى حزب مُعَاوِيَة، فولاه إمرة الحج بعد انفراده بالدولة. وكان المغيرة بْن شعبة ينظر إِلَى ولايته الأولى للكوفة كما نظر عَمْرو بْن الْعَاصِ إِلَى ولايته الأولى لمصر بمعنى أن ولاية الكوفة كَانَت مهمة وعزيزة وقريبة وتمثل طموحًا دائمًا وحلمًا مُراوِدًا للمغيرة بْن شعبة مثلما كَانَت مصر لعَمْرو بْن العَاص.