رحل وديع الصافى، صاحب الصوت العبقرى والأداء الرائع والبصمة التى لا تتكرر فى الغناء العربى.. كان صوته يجمع بين القوة والجمال بصورة مذهلة. بين عنفوان الجبل ورقة السهول المزهرة، كان صوت وديع يتحول فى مناطق الجمال بلا عناء، يأخذك فى لحظة إلى شلال من الفرح، ويغمرك فى لحظة ببحر من الشجن النبيل.
كانت هذه الموهبة الفذة تحتاج إلى إدارة فنية فى مستواها، لم تتوافر للصافى، لظروف عديدة، ولو حدث لبلغ وديع ذُرًى فنية أرقى وأروع. وأيضًا لم يكن للرجل أى قدرة على التعامل التجارى، لهذا كان فى كثير من الأحيان يعمل ليسدد ديونه عن أعمال فنية كان يمكن أن يربح منها كثيرًا، لولا غياب الخبرة التجارية وتكاثر المحتالين فى سوق الغناء.
أول مرة سمعت فيها الصافى على المسرح كانت فى أبو ظبى قبل سنوات طويلة.. كان المسرح متواضعًا وكذلك الفرقة الموسيقية المصاحبة له. لكنه كان سعيدا بجمهور أغلبه من اللبنانيين يشمون معه هواء الوطن ويملؤون الصالة بالرقص والفرح.
بعد عدة حفلات أخبرنى رفيقه الملحن الفلسطينى رياض البندك أن المتعهد نصب على الجميع وأخذ الأموال واختفى، وأنهم يعملون على حل الورطة التى وقع فيها وديع والتى يبدو أنه كان قد تعودها من كثرة ما تعرض له من نصب واحتيال.
بالمناسبة.. كان رياض البندك هو صاحب واحد من أجمل وأشهر الألحان التى غناها وديع، وهو «يا عينى ع الصبر» ولكنه -فى هذه الأيام- كان يكره أى حديث عن هذه الأغنية التى لم يعُد أحد يذكر غيرها عند الحديث عنه، بينما كان هو يحس بأن لديه عشرات الألحان التى قد تفوق فى قيمتها هذه الأغنية.. وربما كان يتذكر ألحانا عديدة له نجحت واشتهرت ولكنها نُسبت إلى غيره من الفنانين.. ولكن هذه قصة أخرى!
فى منتصف القرن الماضى جاء الصافى إلى القاهرة، حين كان صوت العرب يتولى مهمة جمع المواهب العربية. سجل عديدًا من الأغنيات ومنها لحن بليغ حمدى «على رمش عيونها» ولحن البندك «يا عينى ع الصبر».. كان ميدان الغناء مزدحما بالمواهب وكان الأمر يحتاج إلى بعض الصبر والجهد، لم تتح الظروف للصافى القيام بها، ليعود بعد ذلك بسنوات طويلة فيسجل حضوره الكبير وهو يغنى لمصر ويحصل على الجنسية المصرية، ويقتحم قلوب الجميع بلحنه الجميل «عظيمة يا مصر».
قليلون فى عالم الطرب يستطيعون الإمساك بمشاعرك لفترات طويلة. أحب كثيرًا من الأصوات، ولكن بعضها تشتاق إليه بين الحين والآخر، وقليل منه تريد صحبته الطويلة، مثل أم كلثوم، وحليم.. يمكن أن تعيش مع وديع الصافى لسنوات طويلة دون أن تفقد ارتعاشة اكتشاف الجديد والجميل فى صوته العبقرى.. تَأمّل أداءه مع صباح فى المواويل اللبنانية.. صوتان من نفس منطقة الإبداع وهواء الجبل، ثم تأمل أداءه الجميل مع فيروز.. صوتان من عالَمَين مختلفين يلتقيان فى انسجام رائع.. وفى الحالتين يتألق وديع الصافى بأداء فذ وإبداع يفوق التصور.
أتمنى أن يقدم لنا الصديق العزيز المايسترو سليم سحاب احتفالية تليق بوديع الصافى على مسرح الأوبرا، وأتمنى أكثر أن يجد أصواتًا تستطيع أن تقدم لنا صورة حقيقية لهذه الموهبة الاستثنائية فى الغناء العربى.
رحل وديع الصافى، لكن صوته يبقى معنا.. قصيدة حب لا تنتهى للحياة وللحب وللوطن، ولكل ما هو جميل فى دنيانا.. الله يرضى عليه.. الله جميل يحب الجمال، وكم كان وديع الصافى جميلًا وهو يعطّر دنيانا بأروع الغناء.