لم تترك عتمة العنف والإرهاب ومحاولات تقويض الدولة والتهجم السافل على جند مصر البواسل فرصة لكثيرين من المهتمين بالشأن العام وبأوضاع المحروسة الغالية، كى يروا بعض نقاط الضوء التى مازالت موجودة ومضيئة ولو فى صمت وهدوء!. ولقد شاءت الأقدار أن تعتصرنى وأسرتى محنة شديدة، كانت سبيلا لأكتشف نقطة ضوء أفصحت عن أن الوطن مازال فيه من يؤمنون بقيمة العلم وتطبيقاته الحديثة، ويدركون الأهمية الشديدة لقيمة العمل التى يجب أن تكون فى مقدمة كل القيم، لنعود كما كنا فى سالف العصر والأوان ندرك أن العمل شرف وحق وواجب، وأن مكانة الإنسان تتحدد فى السلم الاجتماعى بمدى ما يقدمه للمجتمع من إضافات بعلمه وعمله وخلقه.
ولقد ظلت غالبية الناس بمن فيهم متعلمون وربما مثقفون لا يدركون قيمة الجانب النفسى والذهنى فى صحة الإنسان، وأن النفس والذهن يمكن أن يلحق بهما الكلل والمرض مثلما يصيبان الأجساد وربما بصورة أكثر تأثيرا وفداحة، خاصة أن الظروف التى مر بها مجتمعنا، ومازالت مستمرة بطريقة أو أخرى، أدت وتؤدى إلى إرهاق التكوين النفسى والذهنى للبشر، وبما يفوق قدرتهم على التحمل، ولعلنا إن رصدنا ما يمكن أن يصادفه إنسان فى سن الشباب العشرينى والثلاثينى، ابتداء من حالة التعليم الجامعى ثم النزول إلى سوق العمل وسوق السياسة وغيرهما من الأسواق، لوجدنا عشرات الأسباب لكى تتفشى الإصابات النفسية والذهنية، والأكثر فداحة أن ثقافة المجتمع فى مجملها لا تتوقف كثيرا أمام هذا الجانب الخطير من جوانب حياتنا، بل إن البعض قد يرى فى الإصابة من هذا النوع دلعا لمترفين لا يعانون قسوة الجوع والعرى وانعدام المأوى.. وهذا جهل مطبق لأن الذين يعانون قسوة الجوع والعرى والتشرد لا يخلون من الأمراض الاجتماعية والنفسية والذهنية، وهى ما يتبقى قائما ومؤثرا ومنتجا لآثار وخيمة ثقيلة بعد أن يتوفر الطعام والملبس والمسكن لمن عانوا من فقدها من قبل.
لقد شاء القدر أن أتعامل مع فريق عمل للطب النفسى يقوده أستاذ شاب، هو الدكتور هشام عادل صادق وتلمع فيه أسماء خبراء محترمين، مثل الدكتورة مروى عبد الحميد والدكتور محمد مرسى والدكتور محمد خيرى والدكتور أحمد فهمى، ومعهم هيئة تمريض وإداريين متميزة.
وأشهد أننى انبهرت بمدى ما فى مصر من مؤسسات محترمة تعمل بأعلى كفاءة علمية وتقنية وأخلاقية وفى جو من الصمت والهدوء، مثلما هى أشعة الشمس المتسللة من الزجاج المعشق فى تعشيقة من الأرابيسك العربى، تضىء وتدفئ ولا تحرق!
لقد اكتشفت أن هذا المجال من الطب المعاصر فى مصر وفى العالم قد تقدم بدرجة كبيرة جدا، وأن الصورة السلبية التى ترسخت فى أذهاننا وذاكرتنا واستقيناها من الأفلام المصرية القديمة نسبيا عن مصحات العلاج النفسى والذهنى هى صورة وهمية لا وجود لها، وعرفت أن العلماء والإخصائيين والخبراء الجادين المخلصين فى هذا المجال أكثر بكثير من الذين اتخذوه تجارة ومجالا للربح الفاحش، ولو على أنقاض أنفس وأذهان إنسانية كرمها رب العزة سبحانه وتعالى فى محكم آياته وجعلها فى مقدمة الإعجاز الإلهى للخالق المبدع.
إن الوطن الآن فى أشد الحاجة أكثر من أى وقت مضى لكى نكشف عن نقاط الضوء فيه، ولكى يبادر المعنيون بالصحة النفسية والذهنية للأجيال الشابة خاصة وللمواطنين عموما، إلى تكريس حملات توعية علمية وعملية، وعبر وسائل الإعلام المرئى والمسموع والمقروء بما هو موجود من أعراض وأمراض وكيف يتم التعامل معها، وأنه ليس عيبا ولا نقيصة ولا عورة أن يصاب المرء بشىء منها، وأن المبادرة إلى العلاج واجب يجب ألا يتأخر.
إن عتمة العنف والإرهاب لن تتبدد والأحداث التى تخنق مصر لن تفكك حبالها عن أعناقنا، إلا إذا كان فينا من يستجيب للتحديات بالعلم والعمل والخلق، وسبحان من خلق النفس وسواها وألهمها فجورها وتقواها وجعل الفلاح مصيرا لمن زكاها.