كانت مشاركة المرأة المصرية فى الأحداث السياسية منذ ٢٠١١ أحد الأحداث، التى سيتوقف أمامها التاريخ المصرى الحديث. كانت الفتاة المصرية متواجدة بالجلباب أو بالبنطلون الجينز، بغطاء الرأس أو دونه، محمولة على الأعناق أو فى مقدمة المواكب. كانت أيضا متواجدة على طرفى الشىء ونقيضه فمن متمردى التحرير للمدافعين عن مبارك، ومن الثائرين ضد الإخوان للمعتصمات فى رابعة. هذا الحضور الطاغى لم يكن فقط تأكيدا على طبيعة الغليان الجماهيرى الهائل، إنما كان تأكيدا على أن المرأة المصرية جزء فاعل لا شك فيه فى هذا المجتمع من ست أبوها فى أعماق ريف مصر لأساتذة الجامعات والصحفيات وما بينهما من طيف واسع يضم الأم المصرية ضامنة الأسرة وربها الحقيقى. كانت أحداث الشهور الماضية دلالة على أن أوضاع المرأة المصرية على شفا تغير حقيقى وكبير بلا رجعة بعد أن تصمت الهتافات. لكل هذا قد يكون من الواجب مراجعة البديهيات فى قضايا المرأة المصرية، التى دونها تظل كل الأحاديث والقضايا ثانيا وليس ثانويا.
تهب العواصف الاجتماعية والسياسية على الأمم والشعوب تقلب حياتها رأسا على عقب خيرا أو شرا، ولكن الإنسان يظل ذكرا أم أنثى عبدا للطبيعة لا يخرجه من ألمها إلا العلم وإنجازاته والطب وإبداعاته، ثم قدرة الساسة على ترتيب المجتمع بما يضمن أن يتحصل غالبية الناس على تلك الإبداعات بسلاسة وبساطة. أدخلت الرأسمالية فى العالم مفهوم حرية التنقل (دعه يعمل دعه يمر). ظهر هذا المفهوم كمفهوم ضرورى للرأسمالية، التى تحتاج انتقال الكفاءات والرأسمال. فى الأربعينيات أضاف الرئيس الأمريكى أيزنهاور إلى الأدبيات السياسية الأمريكية ثم الإنسانية مفهوم الحريات الأربع. كانت تلك الحريات الأربع هى حرية التعبير والعبادة، والتحرر من الاحتياج والخوف. صارت تلك المقولات محل زهو الساسة الأمريكيين، بل تحولت إلى قيم إنسانية عالمية. يهدف كاتب هذه السطور إلى الإشارة إلى الحرية الخامسة تلك التى أضافتها الحركة النسوية فى العشرين عاما الماضية. الحرية الخامسة هى مفهوم (الحرية الإنجابية) وهو مفهوم أصابه تشويه متعمد فى مصر رغم أنه فى حقيقته المجردة البسيطة أنه (من الإنسانى أن يكون كل حمل هو حمل مرغوب فيه، وأن من يحدد هذا هو المرأة ذاتها).
تجدر الإشارة لهذا المفهوم، ومصر تحاول التعافى من إعصار الإخوان المسلمين، فلقد كانت المعركة حول وضع النساء فى المجتمع إحدى المعارك الكبرى لتنظيمهم المحلى والدولى. ففى ظلال معركة النساء أضاف الإخوان لأنفسهم أوهام ومسوح الشرف والطهر والقداسة. فى خلال تلك المعركة أيضا اكتملت صفاتهم كتنظيم فاشى له مظهر فى ملبس وسلوك النساء قبل الرجال. اختطف الإخوان قضية المرأة وحقوقها فى كهف سياسى مظلم فى الشرق كله، وصارت نساء مصر وحرياتهن الأساسية من ملبس ومظهر وتطور رهينة بإرادة علماء الكتب الصفراء وما ينشرونه من فتاوى حمقاء سوداء.
كان كل هذا يدور بينما حركه التاريخ والعالم تتطور فى اتجاه معاكس تماما. ففى الولايات المتحدة الأمريكية، وهى قاطرة الحضارة الإنسانية اليوم، تبلورت ملامح تيار سياسى ضخم ألا وهو تيار (الحركة النسوية). هذا التيار السياسى الأمريكى الكبير هو إحدى الظواهر السياسية المهمة فى المجتمع الأمريكى، وهو من محددات السياسة الأمريكية عالميا. النساء الأمريكيات اليوم صرن قيادات كبيرات فى كل المجالات. قيادات حقيقية وليس قيادات (زينة). قيادات فى الهندسة والفن والإبداع، صانعى سياسة، وبليونيرات. اعتبر البعض أن معركة تحرير المرأة الأمريكية لا تقل فى جديتها وأهميتها عن معركة تحرير الإنسان الأسود، وكما صار إنسان أسود رئيسا للولايات المتحدة صارت النساء الأمريكيات قيادات لأعظم الشركات والمؤسسات الأمريكية. خلاصة القول أن مفهوم الحرية الإنجابية صار مفهوما فلسفيا وعمليا وسياسيا مهما تعدى حدود الولايات المتحدة وتبنته هيئات عظمى فى العالم، وقد يكون من الضرورى الإشارة لهذا المفهوم، ولو بكلمة واحدة فيما يخص النساء المصريات ومصر تُقبل على صياغة دستور جديد.
ولربما يجب أن نذهب بداية إلى الشوارع الخلفية لنيويورك فى مطلع القرن، حتى نستكشف ما نريد أن نقول. كانت نيويورك تعج بالمهاجرين وأسرهم الكبيرة من أنحاء العالم. كانت شوارع المدينة التى تحولت إلى حاضرة العالم تمتلأ بأطفال العائلات الفقيرة، التى تعمل فى مصانع الملابس أو فى مجازر اللحوم أو صناعات لا حصر لها. يعرف العالم الكثير بلا جدال عن استعباد الإنسان للإنسان فى العالم الجديد، ولكن القليلين يدركون أن نساء العالم قد تحررن فى تلك المدينة عندما اكتشفت حبوب منع الحمل فيها. هناك فى تلك المدينة تلامس العلم والثروة مع أفكار العلماء وإدراك الإنسان أنه ليس قدرا على المرأة أن تنجب عشرة أطفال أو أن تموت أثناء الولادة من النزيف. فى تلك المدينة مولت نساء أمريكا الأثرياء وسياسيو هذا المجتمع من النساء أبحاث العلماء لابتكار حبوب منع الحمل.
امتدت المعارك السياسية والاجتماعية والعلمية التى أحاطت بظهور حبوب منع الحمل حوالى نصف قرن فى غرب أوروبا والولايات المتحدة. ظهرت حبوب منع الحمل أخيرا فى الستينيات. انتشر تنظيم الأسرة فى أركان العالم الأربعة، كما لما ينتشر أى تدخل طبى آخر وها هى الملايين من النساء يتناولن الحبوب كل يوم كما لا يحدث مع أى من العقاقير الطبية. انتشرت حبوب منع الحمل، ومعها استطاعت النساء التعليم، والتقدم فى كل وظائف الحياة. استطاعت المرأة أن تقرر أن تكون لها أسرة صغيرة من طفل أو اثنين أو أن تكون لها أسرة كبيرة بعد أن تكون قد حصلت على ما تبتغى من تعليم، وما قررت أن تختط لنفسها كمسار مهنى. تحررت النساء من ربقة الأسرة الضخمة متتابعة الولادات، وصارت الأسرة الصغيرة أو الكبيرة اختيارا لا قدرا، وصارت المرأة الفنانة أو الرئيس ممكنا لا حلما. أدى توافر حبوب منع الحمل لتغيرات اجتماعية كبيرة تضمنت تحسنا حقيقيا فى صحة النساء، وتغيرات ملموسة فى معدلات الخصوبة، وصاحبت ذلك تغييرات كبيرة فى قوانين الأحوال الشخصية والعلاقات الاجتماعية. فى ظلال تلك التغيرات الاجتماعية الهائلة ظهر مفهوم الحرية الإنجابية كمفهوم يؤكدأن حق المرأة فى تقرير حجم أسرتها هو أحد حقوق الإنسان. هذا المفهوم هو بؤرة حركة سياسية وصحية وأكاديمية كبيرة، وتنضوى تحت لوائه منظمات ضخمة كالأمم المتحدة ومنظمة الصحة الدولية، وله وجود واضح فى كل القوانين والتشريعات التى يسنها الكونجرس الأمريكى، والبرلمانات الأوروبية. هذا المبدأ هو بالإضافة لهذا أحد المحاور الأساسية، التى تتحرك عليها السياسة الخارجية الأمريكية فى العالم.