كل عام وأنتم جميعاً بخير، بمناسبة الحج، الذى أعتبره مدرسة ربانية لمعرفة وممارسة العديد من أوامر الله العزيز الحكيم.. زاوية واحدة أريد أن أبنى عليها هذا المقال الذى أكتبه يوم وقفة عرفات، التى يحصل من يدركها على أعظم مكافأة عرفها الإنسان: مغفرة تامة تفتح له أبواب الجنة بإذن الله وفضله.
تأملت الحج، واسترجعت تجربتى الوحيدة، وتأكد لى أن «عدم التمييز» يأتى فى مقدمة ما يمكن رصده لمن يبحث عن الحكمة من ورائه.
أقول هذا لكل من يشغل نفسه، ويعلن انحيازه ودفاعه عما يُعرف بالتمييز الإيجابى، ويروّج لدمجه فى الدستور، بحسن نية وصدق فى البحث عن العدالة... يضربون العدالة فى مقتل!
أزعم أنه لا عدالة مع التمييز، حتى وإن كان التمييز المنشود (مؤقتاً)، كما هو الحال فى بعض الدساتير المعروفة! لا شك أن توقيت التمييز- أى تقريره لفترة زمنية محددة- مصيبة عابرة أو غمة زائلة، ولكنى لا أعرف سبباً لفرض شىء ندرك مقدماً مقدار عيوبه، بل نعترف بأنه إهدار لقيم العدالة والمساواة!!
نعم، هناك العديد من تجارب الشعوب الأخرى التى لجأت إلى فكرة التمييز الإيجابى، ولكنهم فعلوا ذلك فى زمن مضى، ولم يعد لديهم استعداد للعودة إليه.. نريد أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولا نقر بتخلفنا، الذى نرسّخه باتباع أفكار عفا عليها الزمن تماماً، كسعينا لبناء مولدات ذرية للطاقة بعد أن بدأت بلدان العالم المتقدم فى تفكيكها والتخلص منها!!
إن القرارات التى اتخذها زعماء القرن الماضى، فى ظل أنظمة حكم فردية، لم تعد مقبولة على الإطلاق فى زماننا هذا.
أعود إلى فكرة التمييز الإيجابى، وأقول: إن دوافعها شديدة الرقى، أليست تسعى لإتاحة الفرصة للمشاركة السياسية لمن لا يصيبهم الدور فى الظروف العادية؟ أليست محاولة لكسر احتكار جنس أو فئة أو غير ذلك من التصنيفات؟ كل هذا صحيح، ولكنه يغفل حقيقة أعمق وأبلغ، وهى أن كل تدخُّل فى الإرادة الشعبية، وكل محاولة لتشكيلها وتوجيهها بالصياغات الدستورية والقانونية، هى نيل من حقوق الشعوب فى تقرير مصيرها واختيار ممثليها بحرية تامة.
لا ينكر أحد أننا نتطلع إلى تمثيل أكبر للمرأة، والشباب، والمسيحيين... سواء فى المجالس النيابية أو المحلية أو غيرها، كما نتمنى أن نجد بين المنتخبين نسبة ملموسة من أصحاب الدخول المحدودة، ومن أصحاب الاحتياجات الخاصة... ولكن هذه التوازنات لا تتحقق بالنصوص الدستورية أو بالقوانين.. وإنما تتحمل مسؤوليتها الثقافة، التى لن تقوم لنا قائمة ما لم تتقدم الأولويات.
أتابع الصراعات الدائرة بشأن الكيانات القضائية وتنافسها على الصلاحيات والاختصاصات، وأتعجب من محاولات الحل التى تذكرنى بمن يُقسّم قطعة الجبن، فيتورط فى أكلها تدريجياً، ولا ينوب أحدا شىءٌ منها.
لا تبحثوا عن حلول مصطنعة نابعة من عدم الثقة بالشعب استناداً إلى معلومات صماء تركز على نسبة الأمية التى تعزل الناس عن الاطلاع والمعرفة، ونسبة الفقر التى تغرى الخبثاء من الأغنياء بشراء أصواتهم، وكم العشوائية الذى يعيشون فيه ويشوّه أولوياتهم واختياراتهم.
مع كل هذا، وفى ظل بيئة استبدادية راسخة، خرج المصريون فى 25 يناير، وحطموا حاجز الخوف، وأثبتوا أنهم لن يعودوا عن ثورتهم إلا عندما تتحقق أحلامهم المشروعة والمتواضعة: «عيش.. حرية...عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية»، ولم يَرِدْ على ألسنتهم أبداً دعوات التمييز، حتى ذلك الذى نُجمّله بإلصاق صفة الإيجابى به.
ليتنا نستعيد قيم ثقافتنا العريقة، وندرك أن أعظم ما فيها هو التراكم الفكرى الذى جعلها تقود العالم إلى عصور الازدهار.
علينا أن نكف عن محاولة إرضاء الجميع، فهى محاولة ساذجة لا تؤدى إلا إلى اختفاء قطعة الجبن التى يتصارع الجميع للفوز بأكبر قدر منها، غير مدركين أنه بوسعنا أن نصنع قطعاً أكبر من الجبن، لو اخترنا العدل هدفاً والثقافة وسيلة!!