الغناء من القلب يخترق القلوب ويستقر عمرا.. وغناء وديع الصافى هو غناء متفرد ولا يضاهى بأى مطرب فى الوطن العربى، لأنه ليس غناء إنما هو مناجاة قوية عفية لله فى كل الظروف.. الحب والحرب.. الاشتياق للأحباب وللطفولة وللمشاعر البريئة.. تشديد العزيمة وإحياء مشاعر الوطنية.. تغنى وديع الصافى بلبنان فعشقنا جبالها وأشجار الأرز، لأننا رأيناها بعيونه، وغنى «عظيمة يا مصر» بعد العبور فتضاعف شموخنا بانتصارنا، ودوت أغنيته تداوى جراح الحرب وتمنح الأوسمة لأهالى الشهداء.. «عظيمة يا مصر يا أرض النعم يا مهد الحضارة يا بحر الكرم.. نيلك ده سكر، جوك معطر، بدرك منور بين الأمم.. إلهى يصونك يا أرض العبور، ويملأ ربوعك محبة ونور.. ونزرع فى ظلك خمايل زهور، وبهجة وسعادة ومجد ونور..».. غناؤه صلاة شكر وتسبيح وتراتيل وعتاب محبة.. كأنه يرى ما يؤمن به رأى العين.. يرى ما لا يراه البشر.. يناجى الله مباشرة فتصفو قلوبنا مثله ونتوحد مع مشاعره.. يكشف جراحنا لله ويطلب منه العون ويصله الرد واضحا وقويا فيبتهج ونبتهج معه وتشفى جراحاتنا لأننا نتقبلها بصبر.. مثلما غنى كلمات حسين السيد للدار الخالية بعد رحيل الأحباب.. «دار يا دارى يا دار، يا دار قوليلى يا دار، راحوا فين حبايب الدار.. لياليكى كانت نور، يسبح فى ضيُه بحور، صبحت فضا مهجور، مرسوم فى كل جدار».. صوته والتصوير بالكلمات يتجول بنا فى كل مراحل حياتنا المحفورة على جدار القلب والعقل، خطواتنا الأولى فى كل دروب الحياة.. لحظات الفرح والحزن السامى.. شريط حياة، صحيح أنه يجدد الشجن، لكنه كالمطهر والمخدر الذى يذكرنا بالجراح، لكنه يمنحنا سلام الاستسلام للعبة الحياة ولإرادة ورحمة الله.. يرحل وديع الصافى بعدما وهن القلب والجسد.. غنى سبعين عاما من أعوامه التسعين وها هى طلقات صوته تصدح محمولة على اجنحة الطيور وسحب السماء.. تسمع اسمه فينطلق صوته القوى الجياش يهز الكيان والوجدان، لأنه صدق فى كل ما غناه.. وديع الصافى ترك المدرسة فى طفولته لمساعدة والده على مصاريف الحياة.. وعاش كل المشاعر التى غناها.. غنى للأوطان الغالية لأن كل إنسان هو جزء من تراب وطنه، وغنى لذوى الاحتياجات الخاصة، لأنه عاش ألم الحرمان وعدم اكتمال أسباب السعادة لأى طفل.. وغنى للحبيبة، وشكا منها، لأنها مصدر البهجة والألم فى الحياة، وأبدع فى عتابها وفى غزلها وفى حبها، فنسمعه فى دويتو مع الصبوحة فى أجمل حالاتها «عيونك يا حلوة يا أحلى عيون.. مثل عيونك يا حلوة ما شفت عيون.. آآه يا ويل ويلى».. وترد الصبوحة غزله بمثله «عيونك حملونى وراحوا مشوار بعيد.. أووف أووف يا عينى».. فينطلق السمعية طائرين مرحين على أجنحة الحب بمشاعر جددتها مشاعر وديع، وأعادت لها صفاءها وبددت غيومها، ووحدت نبضات القلب مع إيقاع الأغنية فرقص القلب وتم الشفاء.. لأن الغناء كان صلاة. وهذا هو سر تفرد وديع الصافى.. إنه يغنى وكأنه يرتل ويسبح الله.. تسمع الآذان والترانيم وأجراس الكنائس فى غنائه، ترى نور الله فى نقاء وقوة وسطوع صوته. رحلة غناء وديع الصافى هى رحلة إنسان آمن بالله دون تعصب، فمنحه الله صوته نقيا ونفسا صافية.. وهى أيضا تسجيل لرحلة أوطان، وتؤكد أهمية الفن والغناء فى السلم وفى الحرب، وفى علاج النفوس وشحن الهمم.. ولن ننسى ما فعله الصليب الأحمر بعد نكسة 67 عندما قام بعمل إذاعة خاصة لإذاعة الأغانى المصرية لأسرانا فى إسرائيل لانتشالهم من حالة اليأس التى فشلت الأدوية فى علاجها.. ونجحت أصوات عبد الوهاب وعبد الحليم وأم كلثوم فى إعادتهم إلى الحياة.. وبعد نكسة حكم مرسى جددت أغنية «تسلم الأيادى» الأمل والثقة فى جيش مصر. وبينما كان يُشيع جثمان وديع الصافى من كنيسة مار جرجس بوسط بيروت.. أكاد أسمعه يترنم بصوت قوى وسط خشوع المشيعين بمزمور بمراحم الرب أغنى، عن حقك يارب أخبر بفمى وأعلن عن نورك.. النور الذى رآه فى أيام الفقر والاحتياج سواء فى طفولته أو فى مرض شيخوخته أو فى أزمات وطنه.. لكنه بكل تأكيد رحل راضيا لأنه ترك صوته وإيمانه وسلامه لدى ولديه أنطوان وجورج ليكملا المسيرة.. مسيرة نشر الفرح والأمل بالغناء.
وديع الصافى .. شاهد عيان لنور الله
مقالات -
نشر:
15/10/2013 10:29 ص
–
تحديث
15/10/2013 10:29 ص