«يا هذا.. حدثنى حتى أراك» مقولة تُنسب لأرسطو منذ ما يقرب من ألفى عام، ولكنها تلخص جوهر أسلوب «تحليل الخطاب» فى الدراسات العلمية فى الوقت الحاضر. فمن خلال تحليل اللغة التى يستخدمها الفرد، ومن خلال تحليل كيفية توظيفه مصطلحاته ومفرداته يمكن التعرف على «شخصيته»، ويمكن التعرف على مصادر ثقافته، وعلى همومه الفكرية، وأحلامه الذاتية والعامة.. وتحليل الخطاب أشبه بالمفتاح الذى ندخل به إلى دولاب «الشخصية»، للتفتيش عن نوعية «معتقداتها»، وعن جودة «أفكارها»، وعن ماركات «توجهاتها»، وعن مصادر ثروتها «الفكرية»، وعن مسارات البرهنة عليها.. فالمرء مخبون تحت لسانه، وموجود فى كلماته، ويعيش فوق مفرداته وداخلها.
وقد مثَّل الحوار الذى انفردت به «المصرى اليوم» مع الفريق عبدالفتاح السيسى، ونُشر كاملاً يوم الجمعة الماضى، فرصة «بحثية» حقيقية للتعرف على أفكار الرجل وتوجهاته، وللتفتيش داخل دولاب شخصيته.. فمن ناحية فإن الحوار يتسم بالشمولية، من حيث تغطيته أبعاداً متعددة موضوعية وشخصية، وأسلوب يميل إلى الإسهاب والشرح منه إلى التلخيص والاختصار، وهو ما ظهر فى عدد كلماته (11427 كلمة بعد حذف مقدمة الحوار). ومن ناحية أخرى، فإن الأسئلة بتنوعها وتعدد مستوياتها (74 سؤالاً) كانت بمثابة «المصابيح» التى تحاول أن تضىء جوانب مختلفة من جوانب شخصية الفريق، وكان مُجْرى الحوار الصحفى المتميز ياسر رزق بمثابة مهندس الإضاءة «الشاطر» الذى يحاول أن يستفيد من الأسئلة فى توزيع الإضاءة على الشخصية، ما بين إضاءة خلفية، ومقدمة، ورئيسية.. ولعلَّ طول الحوار وتعدد الأسئلة يجعلان من الحوار فرصة حقيقية لإجراء تحليل علمى له وفق أسلوب تحليل الخطاب..
وبعيداً عن قناعاتى الشخصية، واتجاهاتى نحو الفريق أول عبدالفتاح السيسى، والتى أشترك فيها مع ملايين المصريين الذين جمعهم الإعجاب بشخصيته وبمواقفه الوطنية، فإننى أحاول فى هذا المقال أن ألخص بعض الاستنتاجات المبنية على التحليل العلمى الموضوعى للحوار..
(1) الشخصية الواضحة والتى تحب التوضيح
كما أشرنا فى مقدمة المقال، فقد بلغ عدد كلمات الحوار 11427 كلمة، بلغ فيها عدد الكلمات التى استخدمها مُجْرى الحوار (الأسئلة) 1461 كلمة (حوالى 13%)، وفى المقابل، بلغ عدد كلمات الفريق السيسى 9966 كلمة (87%).. أى أنه فى مقابل كل كلمة فى السؤال، تمت الإجابة بثمانى كلمات من الفريق السيسى.. وبلغ متوسط الإجابة عن كل سؤال 135 كلمة.. هذه الإشارات الكمية توضح جانباً من جوانب شخصية الفريق السيسى، وهو «حب الوضوح والتوضيح»، وقد انعكس ذلك من خلال إعادته بعض الجمل، وتأكيده على بعض المعانى، وذكره تفاصيل كثير من الأحداث. وما يزيد من وضوح هذه الخصيصة واستقرارها فى شخصيته هو اعتماده فى كل ذلك على الذاكرة، والذاكرة وحدها، وهو ما أشار إليه الأستاذ ياسر رزق عندما أشار إلى أنه «لم تكن أمام السيسى أوراق، أو نوتة صغيرة للتذكرة ببيانات أو تواريخ».
(2) مصر، الوطن، والشعب
من أكثر الكلمات التى وردت على لسان الفريق السيسى فى هذا الحوار كلمة مصر باشتقاقاتها المختلفة وسياقاتها المتعددة (مصر، مصريين، مصرية)، وقد بلغ عدد مرات تكرارها 88 مرة، ولا يعادل تكرار هذه الكلمة أى كلمة أخرى.. وغير خافٍ على أى محلل دلالة تكرار كلمة معينة.. فهى تحمل الهمّ، والشاغل، والاهتمام، والقصد، وغيرها من الدلالات.. وفى سياق الإشارة إلى مصر، تم استخدام كلمة «وطن» بتكرار بلغ 37 مرة، وتمت الإشارة كذلك إلى «الشعب» بتكرار بلغ 32 مرة.. فمصر، وفق دلالة هذه التكرارات، هى الوطن وهى الشعب ولا شىء سواهما أو يعادل أهميتهما لدى الفريق السيسى..
(3) السيسى «رجل دولة»
عندما يتحدث السيسى عن مصر يتحدث عن «الدولة»، فى سياقات مختلفة مضافةٍ ومضافٍ إليها.. فلا شىء آخر يمكن الرضا به أو التحدث عنه، ولا شىء آخر، مثل الجماعة، أو الأهل، أو العشيرة، أو الحزب، أو الفريق، أو النظام، يجب أن يقرن بمصر وأهلها غير الدولة.. وقد بلغ تكرار هذه الكلمة فى الحوار 53 مرة.. منها «دولة بحجم وظروف مصر»، «ما حدث يأتى فى سياق عدم وجود خلفية عن الدولة وأسلوب قيادتها»، «التقارب مع مؤسسات الدولة»، «النسق الفكرى والعقائدى للدولة»، «الولاء والانتماء فى القوات المسلحة للدولة».. وغيرها من الاستخدامات التى تشير إلى أهمية الدولة كإطار حاكم للتفكير، وككيان يجب التعامل معه وفق محدداته وضوابطه.
(4) السيسى بين الخطابين «النخبوى» و«الشعبوى»
يتوزع الحوار بين ثلاثة مجالات من مجالات الخطاب، وهو بهذا حوار متعدد المستويات، أو له طبقات مختلفة من حيث الجمهور المستهدف، أولها ذلك الخطاب الذى يستهدف النخبة، ويميل إلى استخدام المصطلحات والمفاهيم التى تتسق معها، وتتناغم مع مفرداتها، ومن ذلك تكرار كلمات مثل «نسق فكرى، بناء عقائدى، إشكاليات، تشكيل الوعى، رؤى، حرب معلوماتية، متغيرات...»، وثالثها ذلك الخطاب الشعبوى الذى يدغدغ مشاعر الجماهير ويلامس روحهم بشكل مباشر، ومن ذلك تكرار كلمات مثل «مصر منتظراكم»، و«لا يجب أن نكسر بخاطرها أكثر من كده»، و«لم أكن أريد أن ينكسر خاطر الناس»، و«حاسب وانت بتتعامل مع المصريين» كان دعاء أمى «ربنا يحميك من كل شر»... وما بين الخطابين الأول والثالث يوجد الخطاب الثانى الموجه إلى الجميع، والقائم على السرد التاريخى فى بعض الأحيان، والتحليل العلمى فى أحيان أخرى.. وبصفة عامة، فقد شكّل الخطاب الثانى ما يقرب من 80% من الحوار، وتوزعت الاتجاهات النخبوية والشعبوية على بقية النسبة..
(5) الاعتزاز بالمؤسسة العسكرية
لا شك أن انتماء الفريق السيسى إلى المؤسسة العسكرية المصرية هو موضع إعزاز وفخر له، كما أنه مصدر إعزاز وفخر لها.. وقد تبدى ذلك فى تكرار كلمة الجيش وما يتعلق بها فى الحوار، فقد وردت كلمة «القوات المسلحة» 33 مرة، ووردت كلمة «الجيش» 26 مرة، ووردت كلمة «المؤسسة العسكرية» 7 مرات، أى أنه قد ورد ذكر الجيش ما يزيد على 66 مرة داخل هذا الحوار.. وجميع السياقات التى وردت فيها كلمة الجيش ومرادفاتها هى سياقات إيجابية، ومن ذلك «المؤسسة العسكرية جزء من الوطن»، «القوات المسلحة مؤسسة وطنية تتسم بالشرف»، «المؤسسة العسكرية تتسم بالشرف، لا تتآمر ولا تخون»، «المؤسسة العسكرية تتسم بالشرف والنزاهة والأمانة وعدم التآمر وعدم الانقلاب على القيادة وهذه أخلاقيات موجودة بداخلنا».
(6) الاطروحات واضحة ومسارات البرهنة متعددة
فى تحليل الخطاب يشيرون إلى «الاطروحات» ومسارات البرهنة عليها، والمقصود بها أن يشير المتحدث إلى فكرة ما ثم يحاول التدليل عليها والبرهنة عليها بأساليب مختلفة وببراهين متعددة.. ويغلب على كثير من العاملين فى السياسة إطلاق «الأطروحات الكبرى» دون محاولة أو القدرة على البرهنة عليها.. غير أن الفريق السيسى فى هذا الحوار أشار إلى عدد من الأطروحات المتعلقة ودلل عليها بمسارات برهنة مختلفة، ومن ذلك أطروحته الخاصة بغياب فكرة الدولة والمصلحة العامة عن ذهنية النظام السابق.. وقد دلّل على هذه الأطروحة بعدد من الأمثلة، والحوارات، والشواهد المتنوعة التى تدعم وجهة نظره وتبرهن على صدقها.. الأمر نفسه تكرر عندما تحدث عن أطروحة «الشعب الذى أمر والجيش الذى لبّى»، وعن أطروحة اختلاف «نسق الفرد والجماعة ونسق الدولة»، وغيرها من الأطروحات السياسية التى لم يكتف بطرحها، وإنما أقام الدليل على صحتها وعلى صدقها بوسائل مختلفة.
(7) الأسلوب العلمى وطرح الأسئلة
المدقق فى حوار الفريق السيسى يلفت انتباهه وبشدة كثرة استخدامه أساليب التحليل العلمى فى سياق حديثه عن المشكلات المختلفة.. فهو يرى أن حل المشكلات يتم من خلال «رصد الأمور، والتعامل مع المعطيات، والتنبؤ»، وهو ما تقوم به المؤسسة العسكرية، وأنه لا يمكن «بناء توقعات» أو فرض فروض إلا من خلال «الدراسة والعلم والمعرفة والفهم».. واللافت للنظر أيضاً هو تكرار استخدامه كلمة «إشكالية» (4 مرات) كتعبير عن موقف ملتبس، وهو تعبير دقيق للغاية وتكراره يعبر عن وعى بدلالته فى مقابل كلمة «مشكلة».. كذلك ورد 17 سؤالاً على لسان الفريق السيسى داخل الحوار.. فهو لم يكتفِ بأسئلة الأستاذ ياسر رزق وإنما أضاف إليها أسئلة من عنده، فهو دائما يتساءل، ويحاول البحث عن إجابات لأسئلته، وهى خصيصة مرتبطة بالباحثين وبالفكر العلمى..
(8) الأمن، والاستقرار، والتنمية برنامج عمل للمستقبل
ما أولويات مصر فى الفترة القادمة، وما برنامج العمل الذى يجب أن يتم تطبيقه؟، الإجابة عند الفريق السيسى تتمثل فى «الأمن» الذى تكرر 24 مرة فى الحوار، ثم «الاستقرار» (6 مرات)، و«التنمية» (6 مرات)، و«الاقتصاد» (3 مرات).. ولا شك أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار والتنمية دون أمن.. ولذلك فإن تحقيق الأمن وشعور المواطن به فى بيته وشارعه وعمله سيؤدى إلى حالة من الاستقرار تنعكس إيجاباً على الاقتصاد.. هذه، باختصار، هى خارطة الطريق السياسية والبرنامج السياسى كما يتضح من حوار الفريق السيسى.
(9) الاحترام فى حضرة التاريخ
ورد فى الحوار ذكر الرئيس جمال عبدالناصر أربع مرات، وذكر الرئيس أنور السادات مرتين، وذكر الرئيس حسنى مبارك مرة واحدة، وذكر الرئيس مرسى مرتين.. وهو تكرار قد يعكس انتماءات مع وضد لا سيما بالنسبة للأول والرابع.. والملاحظ أنه فى جميع السياقات فقد تم ذكر أسماء الرؤساء الأربعة بألقابهم، حتى الأخير منهم قد تم ذكره بلقبه، وفى الحالة التى لم يتم ذكر استخدام لقب الرئيس تم استخدام لقب«الدكتور» بالنسبة له.. وهو ما يعكس حالة من الاحترام، بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر.. ولعل هذا الاحترام هو سمة للمتحدث يقدرها ويحرص عليها، وهو ما يتفق مع المثل العربى «حديث زيد عن عمرو ينبئ عن زيد أكثر مما ينبئ عن عمرو».. ومن المفارقات الكمية أيضا فى هذا الحوار أن ذكر «خيرت الشاطر» قد تكرر 3 مرات فى الحوار، بنسبة أعلى من الرئيس مرسى، وهو تكرار لا يخلو من معنى ودلالة.
(10) التدين المستنير.. والله غالب على أمره
التدين المستنير إحدى السمات التى يمكن أن يجدها المحلل بسهولة فى هذا الحوار.. ففى حديثه عن مفهوم الدين لدى «الإسلاميين» وعى تام بماهية الدين الصحيح، وبتخريجاته لدى هؤلاء الإسلاميين، ورغم ذلك فهو ينفى عنهم أى شبهة تعمد أو انحراف، فهو يقول «هل هناك أحد يستطيع أن يجادل أن هؤلاء الإسلاميين حريصون على الإسلام؟ لا شك فى ذلك».. وهو يرى أن مشكلة الإسلام السياسى فى «التطبيق وليست فى المنهج».. وهو فى جميع حالاته لا يخشى سوى الوقوف بين يدى الله، «وهذا ما يجعلنى واثقاً جداً من نفسى، مش بس عشان المصريين، لكن عشان ربنا اللى أنا رايح له.. لأننى سأقف يوماً ما أمام يدى الله، وسوف أُسأل عن كل ما فعلت».. إنه الإيمان المبنىّ على بصيرة، والقائم على العلم، وما أجملهما عندما يجتمعان معاً: العلم والإيمان!