ديسمبر 2015
رعد وبرق وأمطار. وفى ذلك النادى النيلى الخالى تماما من رواده، فى هذا الطقس التقى الماء بالماء. ثمة شاب يجلس منفردا على مائدة ابتل مفرشها، ودموعه تختلط برذاذ النيل وخيوط الأمطار. وعن مقربة منه يراقبه كهل متقد العينين متخفيا فى الظلام. الشاب جسده هامد تماما مستسلم للماء المتدفق وكأنه لا يشعر به. حتى إنه لو أراد القفز فى النيل ما استطاع. يبكى دون أى انفعالات وكأن صمام الدموع فى عينيه قد تلف للأبد.
الكهل المتلفع فى الظلام ينهض عن مائدته فى تصميم ويقترب بخطوات هادئة إلى الشاب.
مارس 2016
دق الجرس فى الصباح برنين مألوف. استيقظت حواسها وهى تتساءل: هل لكل إنسان قدرة على ضغطة معينة للجرس أم أنه مجرد آلة صماء؟. هذه دقته. إنها تعرفها فهل عاد؟ ولكن كيف يعود وقد دفنت جثته بنفسها بعد مصرعه فى تلك الليلة الممطرة. آه لا تريد أن تتذكر مشهده فى تلك الليلة. كان يبدو كمن كبر عشر سنوات فجأة. كبالون فرغ منه الهواء. لكنها لا تكتم اشتياقها إليه. تحلم به كل ليلة. يخبرها أنه لم يمت. تستيقظ على مذاق الدموع. أفاقت من خواطرها حينما سمعت صوت الخادمة وهى تفتح الباب. ودار نقاش بصوت مرتفع لم تستطع أن تميز فحواه. ثم سمعت أقدام الخادمة وهى تهرول وتقول لها بانفعال:« هناك من يزعم أنه من طرف سيدى، بل يزعم أنه سيدى نفسه».
أكتوبر 2018
انفجرت الفضيحة فى الصحف فجأة وتصدرت مانشيتات الصحف وعناوين الأخبار. القبض على من يدّعى أنه الدكتور «إبراهيم سعد» أشهر جراحى المخ والأعصاب. لو كان الأمر مجرد القبض على طبيب مزيف يمارس الطب لهان الخطب فلطالما تكررت هذه الأنباء. ولكن تكون دائما فى حى شعبى أو قرية منعزلة، يلعب فيها الإيحاء دور البطولة فى الشفاء. لكن أن يكون التخصص هو جراحة المخ والأعصاب، وأن يمارس النصاب أعقد العمليات وأشدها تخصصا فى مساحة لا تحتمل ملليمتر خطأ، ويستخدم أحدث تقنيات الجراحة المتقدمة، ثم تنجح الجراحة فذلك هو اللغز الذى يستعصى فهمه على الألباب.
تبين من التحقيقات أن الفريق الجراحى كان يعلم أن هذا الشاب الذى يدّعى أنه الدكتور إبراهيم هو شخص آخر، ولكنهم فشلوا فى تبرير صمتهم، كما فشلوا فى فهم لغز مهارته الفائقة. ولولا مشاعر الحب التى تحركت فى قلب ممرضة مساعدة، والصد الذى جاء من ناحيته، لما وصل الأمر إلى الصحافة ولا تم خضوعه للنيابة التى تولت التحقيق.
المفاجأة الكبرى كانت فى موقف زوجته، هذه السيدة التى تخطت الستين، بشعرها الأبيض وقوامها النحيل ولفتاتها الأرستقراطية، والتى تبين أنها تحيا مع هذا الشاب المنتحل شخصية الدكتور إبراهيم كزوجة وزوج. وحينما استدعاها وكيل النيابة لأخذ أقوالها قالت بكل وضوح:
- هذا الشاب، هو بالفعل زوجى الدكتور إبراهيم.
نوفمبر 2018
استغرق وكيل النيابة فى التفكير. شرع يتأمل صورة الشاب وصورة الدكتور إبراهيم. ويعاود قراءة تقرير الطب الشرعى الذى يؤكد أن لكل منهما بصمة مختلفة. فلماذا تزعم الزوجة أنه هو؟ وما تفسير كل هذه الألغاز؟.
( نكمل غداً إن شاء الله).