أريد أن أضعك اليوم فى أجواء جبل عرفة، الذى وقف عليه أمس نحو ثلاثة ملايين حاج، ولكن من منظور مختلف.. وهذا المنظور الذى أريد أن أضعك فيه، وأن أضع المسؤولين عن الأمن فى بلدنا بشكل خاص، فى أعماقه، هو مدى القدرة التى سوف تكون متاحة أمامهم لتحقيق هدفهم، من حيث إقرار الأمان للناس، لو أن هؤلاء المسؤولين أخذوا بوسائل الأمن والتأمين الحديثة، التى لا مفر لنا فى الأحوال كلها من الأخذ بها.
ذلك أنك لو كنت بين الملايين الثلاثة، طوال نهار أمس، الاثنين، ولو كنت بين غيرهم، بامتداد سنوات مضت، فسوف تلاحظ فى الحالتين، أن هناك طائرات هليكوبتر تحوم وتحلق فوق جبل عرفة، ثم تروح وتجىء، على مدى ساعات النهار، وسوف تتساءل حتماً بينك وبين نفسك، عن الهدف الذى تطير من أجله هذه الطائرات، فلا تتوقف فى جولات لا تنقطع، وفى كل الاتجاهات.
من ناحيتى سوف أجيب عن سؤالك، نيابة عنك، من خلال عنوان نشرته صحيفة «الوطن» السعودية فى صدر صفحتها الأولى صباح أمس الأول، وكان العنوان يقول الآتى: صور جوية «توثِّق» تحركات المتسللين.
أما الصور الجوية فهى مأخوذة من عرفة، ومن مكة المكرمة عموماً، وأما الكاميرات التى تلتقطها فهى موجودة فى تلك الطائرات التى تملأ سماء المكان، وأما «توثيق» الصور فإنه يتم من خلال مراكز مختصة موجودة على الأرض تتلقى الصور أولاً بأول.
والقصة تجرى كالتالى: تستطيع كاميرات الهليكوبتر مسح مكة كلها، وكأنها - أقصد الكاميرات - عين مفتوحة على مدينة مكة بكل أطرافها، ولأنها كاميرات حديثة للغاية، فإنها تلتقط كل تفصيلة فى أرجاء المكان، ويمكنها بالتالى أن تحدد مكان أى مخالف، أو متسلل، وترسل صورته فى اللحظة ذاتها إلى تلك المراكز الأمنية المختصة التى تقوم بدورها بضبط كل المخالفين والمتسللين بسرعة، وبقدرة عالية جداً فى الأداء، وفى الحركة، وفى التصرف!
وعلينا أن ننتبه هنا إلى أن مجرد إحساس المتواجدين فى مكة، أو فى غيرها، بأن أدوات الأمن الحديثة هذه ترصد حركتهم، وتراقبها، فإن هذا وحده، فى حد ذاته، يمثل رادعاً يجعل نصف الذين يفكرون فى المخالفة، أو فى ارتكاب جريمة، يتراجع من تلقاء نفسه، لتتكفل «الصور الموثقة» بالنصف الباقى، الذى لم يردعه مجرد الإحساس.
وإذا كان قد قيل إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، أى أن السلطان، أياً كان شكله، قادر على ردع المجرم، بأكثر من قدرة أوامر القرآن، فإن سلطان هذا العصر الذى نعيشه إزاء كل المجرمين والمتجاوزين فى حق المجتمع، والمعتدين على حياة الناس، والمهددين لأمنهم، إنما هو هذه الطائرات، وتلك الكاميرات، ولا شىء غيرها، فمتى نراها فى سمائنا؟!