إذا تجاوزتُ عن جهل وسفالة وقلة أدب أنصار جماعة الشر الفاشية التى خلعها المصريون من حياتهم إلى لأبد (غالبا)، هؤلاء الذين أضحوا ثوارا أحرارا فجأة كده بعدما تسلقوا «مواسير» ثورة يكرهون كل أهدافها ولا يفهمون أصلا معنى شعاراتها الراقية.. إذا تركت الفاشيين تجار الدين التعساء هؤلاء بجوار أقرب حائط فإن هناك حفنة أخرى ممن يقفون فى خندقهم المظلم قد تختلف معهم وتغتاظ جدا من براءتهم العقلية وبؤس وعيهم السياسى (على نحو يودى فى ستين داهية)، لكنك لا تستطيع إنكار إخلاص بعضهم وطيبة قلوبهم.
هنا أتوقف تاركا باقى المساحة لسطور قديمة كتبتها هنا فى ذكرى صديق عزيز رحل عن عالمنا بعدما عاش حياة قصيرة حمل فيها بعضا من أعراض تلك البراءة السياسية والعذرية الثورية (ممكن تقول «العبط الثورى»)، الذى قد يذهب بصاحبة والبلد إلى مصائب مؤكَّدة.. قلت عن صديقى الراحل:
رغم طيبة قلبه وسلوكه الذى يقطر رقة وتهذيبًا كان فى السياسة شديد الحدة والتطرف لدرجة أننا -معشر أصدقائه ورفاقه فى التنظيم السرى الشبابى الذى أسسناه ونحن طلبة فى الجامعة- كلما دعوناه للمشاركة فى مظاهرة سلمية أو توزيع منشور ضد نظام الحكم استخفّ بنا وبوسائلنا النضالية العبيطة، وطالبَنا بأن نحمل السلاح فورا وننخرط توًّا فى حرب عصابات ثورية طويلة الأمد وحامية الوطيس لا تنتهى إلا بدحر النظام وإسقاط حكم اللصوص الخونة وإعلان مصر جمهورية عربية ثورية.. الآن وحالا وليس بعد ساعة واحدة!
وأعترف الآن بأننى كثيرا ما كنت أستغل طيبة صديقى هذا وأسمح لنفسى بالتجاوز معه وتجاهُل حقيقة أنه يكبرنى ببضع سنوات ويتبوأ وضعا ومنصبا أرقى وأعلى منى فى تنظيمنا السرى، فأعلق مداعبا على فكرة الحرب الثورية التى يحرضنا على خوضها، بأن المشكلة الوحيدة التى تمنع تنفيذ اقتراحه، ليست أننا لا نستطيع شراء أسلحة حربية بالقروش والجنيهات القليلة التى ندفعها من مصروفنا لتمويل نشاط التنظيم، وإنما مشكلة المشكلات حقا أن المولى تعالى لم يخلق مصر ولم يشكلها -للأسف الشديد- على طبيعة جغرافية صعبة ووعرة وإنما حباها أرضا سهلة منبسطة فقيرة إلى مرتفعات وجبال تشبه «سييرا مايسترا» التى تَحصَّن فيها فيدل كاسترو وجيفارا فى خمسينيات القرن الماضى، ونزلا منها بقواتهما الثورية إلى العاصمة هافانا بعدما كانا أنهكا جيش الديكتاتور باتيستا وهزماه شر هزيمة.. لهذا يا صديقى كنت أتابع هازرًا: يبدو أننا مضطرون أن «نُقضّيها» نضالا بالمظاهرات والمنشورات العبيطة تلك حتى «تسنّن» مصر ويطلع لها فى الوادى نتوءات وجبال تصلح لخوض حرب عصابات ثورية ناجحة!
كان صديقى رحمة الله عليه يضحك ولا يغضب من تهريجى البائخ، ولكنه سرعان ما يعود إلى ارتداء سيماء الجد فيقطّب ما بين حاجبيه ويرفع نبرة صوته قائلا: يا عزيزى، هذه حجة البليد (يقصد الجبان)، من قال إن نقص الجبال يمنع البدء فى الكفاح الثورى المسلح؟! ومع ذلك يا سيدى عندك «تلال المقطم» موجودة شامخة، وهى لحسن الحظ متاخمة تماما لحدود القاهرة مثل جبال «سييرا مايسترا».
لكن «تلال المقطم» تُستغلّ الآن (نهاية سبعينيات القرن الماضى) فى شؤون واستعمالات أخرى تجعلها بعيدة كل البعد عن الأجواء الحربية الثورية -هكذا كنت أرد على صديقى- فهل يرضيك أن نزعج «الحبّيبة» المعشّشين على أرصفة كورنيش المقطم بطلقات بنادقنا ومدافعنا؟ يا راجل حرام عليك، إنت ماعندكش اخوات صغيّرين؟!
كان صديقى ينهى هذا الحوار الهزلى دائما بابتسامة مصحوبة بهزة رأس وإشارة من يده معناها أن العبد لله جاهل ومافيش فائدة.
و... ذات يوم كلّفنى التنظيم بمهمة ثورية فى المدينة الساحلية التى يسكن فيها صديقى مع أسرته، وبالطبع كان هو رفيقى فى المهمة، وعندما أتممناها وحل المساء أصر أن أبيت الليلة فى بيته، وهناك استمتعت بعشاء رائع أعدته لنا والدته، فضلا عما غمرتنى به من عواطف حارة عرفت منها مصدر طبيعته العذبة الطيبة.. ثم حان أوان النوم فدخلنا حجرته، وما إن رميت جسدى المنهك على سريره حتى وقع بصرى على رصة كتب مكوَّمة على منضدة ملاصقة للسرير يرقد أعلاها كتاب «أرواح وأشباح»، فلما انتفضت ومددت يدى ورحت أقلّب فى باقى الرصة صُعقت، فقد كانت كلها تقريبا من تحف المرحوم أنيس منصور، ابتداء من «الذين هبطوا من السماء» إلى «الذين عادوا» إليها!
لاحظ صديقى ملامح الدهشة والصدمة المحفورة على صفحة وجهى فرمقنى بنظرة بدت تستصرخنى الإفصاح عما أذهلنى، فجاوبت السؤال الذى لم يقله وهتفت باستنكار: هل هذا ما تقرؤه؟! كنت أتوقع أن أجد مكتبتك زاخرة بكتب وأسفار من نوع «حرب العصابات» لتشى جيفارا، و«الحرب الثورية» و«الحرب الشعبية» للجنرالين أندريه بوفر وجياب، فضلا عن كتاب «دروس وتكتيكات حرب العصابات» لجيمس كولونى، إلخ!
ابتسم الصديق الطيب وقال بكل هدوء: أنا لست محتاجًا إلى كل هذه الكتب القيمة، أنا محتاج أريّح دماغى شوية بالليل. هل تعرف أن القومندان روميرو قائد حركة تحرير أقليم الباسك (شمال أسبانيا) يفعل مثلى ولا يقرأ قبل أن ينام إلا مجلات «ميكى» و«سمير»؟!
كنت مصدوما وخجلان فلم أردّ، ولم أقل إننى لا أعرف أصلا القومندان روميرو ولا اللغة التى يقرأ بها هذا الرجل مجلة «سمير».
رحم الله صديقى.