لماذا هى صعبة عملية إقدام قيادات جماعة الإخوان المسلمين على إجراء مراجعة تتعرف من خلالها على أخطائها وأسباب سقوطها فى صدام مع الشعب بعدما كانت صراعاتها تاريخياً مع السلطة؟
عادة ما تستجيب السلطة للإرادة الشعبية، والطبيعى أن يجرى الحزب الحاكم (الجماعة فى هذه الحالة)- عندما يخسر الانتخابات أو يخفق فى تحقيق الأهداف التى صوت الناخبون لصالح مرشحيه من أجل تحقيقها أو يسحب الثقة منهم- مراجعات لبرنامجه أو لسياساته أو لشخوص القائمين على تنفيذها أو لكل ذلك، للوقوف على أوجه القصور وأسباب الغضب الشعبى، ويواجه نفسه بالسؤال: لماذا فشلنا؟ ثم يجرى التغييرات لاستبدال الرضا بالغضب.
لكن فى حالة الجماعة وذراعها السياسية، حزب الحرية والعدالة- الذى لم يكن له من اسمه نصيب- قاومت الجماعة الغضب الشعبى، وبدلا من طرح السؤال على قياداتها وكوادرها وقواعدها لجأت إلى محاولة فرض ما يمكن تسميته «الوجود القسرى» فى السلطة، ثم إلى محاولة العودة القسرية للسلطة رغم ثورة شعبية شهدت خروجاً جماهيرياً فريداً من نوعه فى تاريخ الإنسانية ضد سلطة حاكمة، وذلك باستخدام أخس وأبشع الأساليب، وهو الإرهاب، وذلك بأن تخرج جماعة أصبحت خارج السلطة والحكم على شعبها الذى أجبرها على الرحيل بالسلاح تهدده وتتوعده فى نموذج غير مسبوق فى التاريخ.
فقد كان من المستبعد- على خلفية علاقة الجماعة بالدولة والمجتمع منذ إنشائها- أن تجرى مراجعة، وكان من المنطقى- على نفس الخلفية- أن تنهج نهجها فى إنكار الواقع ومحاولة تزييفه واعتماد الكذب سياسة لسبب رئيسى هو أن المراجعة والإقرار بارتكاب أخطاء وجرائم يعنى للقيادات «المحاسبة».
لا تخشى قيادات الجماعة «المحاسبة الوطنية» بقدر ما تخشى المساءلة والمحاسبة داخل الجماعة من جانب كوادرها وقواعدها، فالإقرار بارتكاب أخطاء يعنى اعترافاً بالمسؤولية عن الفشل ليس على المستويات الاستراتيجية والسياسية فقط بل على المستويات التنظيمية والفكرية، على صعيد الجماعة ذاتها، وما قد يترتب على ذلك من آثار لعل أهمها- فى ضوء هذه التجربة أو المحنة- شعور القوى الدولية والإقليمية الداعمة للجماعة عندئذ بالحرج فى الاستمرار فى هذا الدعم، ورفع غطاء الحماية عن هذه القيادات والجماعة وتنظيمها الدولى، وانكشافها أمام قواعدها وكوادرها من حيث كانت طرفاً (أداة) فاعلاً فى مخطط إقليمى - دولى ورطت القيادات فيه الجماعة كتنظيم وفكرة بما يضع مشروع حسن البنا من أساسه على طريق النهاية السوداء، وبما أيضاً قد يطال فتح ملف صفقة 1971 بين الولايات المتحدة والسادات والجماعة وامتداداتها إلى أفغانستان 1979، أو يطال كذلك ملف عملية انتخاب المرشد محمد بديع وأعضاء مكتب الإرشاد 2009 التى أحكم التيار القطبى خلالها قبضته على الجماعة وعلاقة ذلك بالمشروع الأمريكى «الشرق الأوسط الإسلامى الجديد برعاية أمريكية»، وبما قد يؤدى- هذه المرة- إلى وصم كوادر الجماعة وقواعدها لقيادتهم بأنهم «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين».
لذا من المستبعد أن تسمح قيادات الجماعة ومن قبلها ظهيرها الإقليمى أو الدولى بإجراء مراجعة تضع الجماعة على طريق التوبة وطلب الصفح أو المصالحة والتسامح.
فى هذا الصدد يوفر «مبدأ السمع والطاعة» جداراً تتحصن قيادات الجماعة (مرشدها وأعضاء مكتب إرشادها منذ إنشائها من المحاسبة) وراءه، فهو «المبدأ» الذى حال بين رغبة بعض قيادات فيها وكوادرها وبين إجراء مراجعات، كما حال هذا المبدأ بين الجماعة وبين استيعاب الدعوات الشعبية لسحب الثقة من رئيس وإجراء انتخابات مبكرة، أو حتى الرفض الشعبى لاختيارها شخصيات فى بعض مواقع المسؤولية، بل استيعاب خروج الشعب فى ثورة 30 يونيو 2013.
ومن المدهش أن الجماعة حاولت فرض هذا المبدأ دون نقاش على الشعب بأكمله، ومن ثم كان خروج الشعب عليها وعلى مندوبها فى قصر الحكم عصياً على فهمها وفوق قدرتها على الاستيعاب، فإذا كان السمع والطاعة يحول دون ممارسة النقد الذاتى داخل الجماعة أساساً فكيف كان يتوقع أحد أن تقبله من خارجها.
إن هذا المبدأ الذى يعد مصدر قوة الجماعة وتماسكها على مدى 85 عاما بات بعد هذا العمر الطويل نقطة ضعفها أو «نيران صديقة»، فلم يعد صالحا كى تتحصن الجماعة ولا قياداتها وراءه للتهرب من استحقاقات الفشل، وتتخذ من النظريات القديمة البالية (المؤامرة- المظلومية) وسيلة لتقديم نفسها للعالم وللشعب باعتبارها «ضحية»، فقد برهنت ممارساتها بعد السقوط فى 30 يونيو 2013 على كارثية هذه النظريات على الجماعة، فلم تعد قابلة للتصديق مع مشاهد العنف والإرهاب وإطلاق الرصاص على المدنيين الأبرياء حتى ورجلها قابع فى كرسى الحكم، تماما مثلما لم يعد هذا المبدأ حاميا لها وإنما دافع لها نحو الانهيار حيث تحول هو نفسه إلى جدار عازل بين الجماعة وقدرتها على الفهم من ناحية وبينها وبين تيار يتنامى داخلها يريد أن يعرف من ناحية أخرى.
تتعدد وتتنوع مظاهر عدم القدرة هذه على الفهم، فلا تزال الجماعة تراهن على الخارج، حكومات ووسائل إعلام لكون البيئة الحاضنة للجماعة لم تعد فى الداخل (بعدما انتهى أجل التفاوض بينها وبين الدولة بسبب الرفض الشعبى لها الذى تحول إلى كراهية غير مسبوقة ولكون أغلب قياداتها مطلوباً للعدالة) وإنما لأنها أصبحت فى الخارج حيث كانت حكومات أجنبية (أمريكا – تركيا – قطر) طرفا فى معادلة السلطة والحكم بعد تنحى الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى 11 فبراير 2011 للدفع بالجماعة إلى السلطة، لكن هذه الأطراف أحرقت ورقة «الاعتراف الدولى بشرعية الرئيس السابق محمد مرسى» التى سعت الجماعة إليها لفرض وجودها مفاوضاً فى المعادلة الجديدة لحكم البلاد بعد 30 يونيو.. فتلك الأطراف فى النهاية تسعى نحو مصالحها وستعالج مخاوفها من ظهور زعامة وطنية كعبدالناصر بالضغوط. مظهر آخر من مظاهر عدم قدرة الجماعة وقياداتها على استيعاب دروس التاريخ بسبب مبدأ السمع والطاعة دون نقاش هو درس 15 مايو 1971، فما تصورت الجماعة ومرسى أنه أقوى سلاح يملكانه، وهو الشرعية، كان أضعف أسلحتهما وأوهن حصونهما، وأقوى أسلحة الشعب التى خرج لاسترداها ودك بها حصن الجماعة كبيت العنكبوت.
فالرئيس السادات فى 1971 نجح فى حسم الصراع مع ما يسمى «مراكز القوى» بسلاحين، الأول: تأمين تأييد مؤسسات الدولة له، وبجعل الصراع صراعا مع قوى سياسية تنازعه السلطة وليس مع الدولة ومؤسساتها، والثانى: إخراج الشرعية من الصراع وجعله أمام الرأى العام صراعا حول الديمقراطية، متهما خصومه بأنهم يحولون بينه وبين تحقيق الديمقراطية للشعب.
أما مرسى وجماعته وأنصاره فى 2013 فقد دخلوا صراعا مع الدولة ومؤسساتها.. فالمرشد هاجم الجيش وقياداته، ونائبه الشاطر تعامل معهم باستكبار وحاول أن يملى عليهم تعليماته، وأحدهم (أبوالعلا ماضى) اتهم جهاز المخابرات العامة برعاية 300 ألف بلطجى وآخر (البلتاجى) بوأ نفسه رئيساً لجهاز الرقابة الإدارية، ومنهم (صلاح أبوإسماعيل) من تعهد بتأديب ضباط الشرطة، ومن أهان الإعلام (صلاح عبدالمقصود) والمثقفين (علاء عبدالعزيز) واتهم القضاء بالفساد (جماعة قضاة من أجل مصر؟) حتى الأزهر والكنيسة لم يسلما من أذى الجماعة.. وذلك على سبيل المثال لا الحصر، فضلاً عن أن أحداث مايو1971 كانت صراعاً على السلطة، أما 30 يونيو 2013 فهى ثورة تعلو فيها الإرادة الشعبية على ما عداها بما فيها شرعية الصندوق.
فلم يدرك مرسى وجماعته أن صراعات الحاكم مع مؤسسات الدولة- وفى دولة كمصر- هى صراعات يخسر فيها الحاكم.. فالبلاهة صورت لهما أنه بوصول الجماعة لمقعد الرئيس صارت الجماعة أقوى من الدولة ومؤسساتها العريقة وليست العميقة.
وعلى صعيد الشرعية فقد كانت قد تآكلت بسبب سلسلة مفجعة من الأخطاء والجرائم تماما مثلما تحول السمع والطاعة على أيديهم من «سر للبقاء» إلى «سر للفناء»، أما على صعيد الخطاب السياسى فحدث ولا حرج، فالسادات- المخادع حتى يكسب شرعية جديدة- كان يدرك أن الشعب يحب عبدالناصر فتحرك نحو جماهيره فى مواقعها بخطاب «إذا كان عبدالناصر قد مات فهناك 30 مليون عبدالناصر».. وبإيماءات «الانحناء أمام تمثال عبدالناصر».. أما مرسى وبعد ثورة رفعت شعارات وصور عبدالناصر فقد وجه إهانات إلى فترة حكمه «وما أدراك ما الستينات؟»، وعندما حاول تدارك ذلك فى عيد العمال أول مايو 2013 كان الجميع أدرك أنه كذاب.
يحق على مرسى وجماعته قول السادات فى خصومه «هؤلاء يجب أن يحاكموا بتهمة الغباء السياسى».
* رئيس تحرير الأهرام السابق