كَانَ عَمْرو بْن الْعَاصِ والمغيرة بْن شعبة من آحاد الرَّعية يوم نشب النزاع على الخِلاَفَة بين عميد بنى هاشم علىّ بْن أَبِى طالب وعميد بنى أمية مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان ولم يكُن لأيهما -لعَمْرو بْن الْعَاصِ أو للمغيرة بْن شُعبة- الجند والمال والعصبة الَّتِى تنافس العصبية الهاشمية أو الأموية فمَاذَا فَعَل الداهية الأول عَمْرو بْن الْعَاصِ؟ -وتعبير الداهية لإجلاله وتقديره وليس للطعن فِيهِ فهو داهية بمعنى شديد ورائع الذكاء- تردد عَمْرو بْن الْعَاصِ قليلا قبل شد الرحال إِلَى صراع على ومُعَاوِيَة وتساءل: إِلَى أين أنتحى؟ وإِلَى أين أذهب؟ وفى ظنى أن هَذِهِ الحيرة كَانَت حيرة التصرف وليست حيرة القرار بمعنى أنه كَانَ مقررا أنه سيكون إِلَى جانب مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان وكانت حيرته سببها هُوَ كيف يتصرف، خصوصا أنه استشار أبناءه فاختار لَهُ أحد ابنيه صفّ مُعَاوِيَة والآخر اختار صف علىّ بْن أَبِى طالب كما استشار عَمْرو بْن الْعَاصِ غلامه وخادمه وحارسه الأمين وردان الَّذِى كَانَ يشتهر بالدهاء فقال لَهُ وردان: «إن شئت أظهرت لَكَ نفسك، اعْتَرَضت الدنيا والآخرة على قلبك فقلت مع عَلِىّ الآخرة بلا دنيا ومع مُعَاوِيَة الدنيا بلا آخرة فأنت واقف بينهما»، فقال عَمْرو بْن الْعَاصِ: «ما أخطأتَ ما فِى نفسى يا وردان فمَاذَا ترى؟». وَهُوَ ما يجعلنا نتذكر ما كَانَ يجرى من بعض المُسْلِمِين فِى المعارك بين علىّ بْن أَبِى طالب ومُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان، حَيْثُ كَانَت هُنَاك جماعة من المُسْلِمِين إذا نودى للصلاة ذهبوا للصلاة خلف علىّ بْن أَبِى طالب، وإذا دُعِىَ بالنفير إِلَى الطعام جَرَوا إِلَى معسكر مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان، ومن هُنَا ظهرت المقولة الشهيرة الَّتِى صارت مثلا فِى التَّارِيخ وَهِىَ أن «الصلاة خلف علىٍّ أتقى والطعام عند مُعَاوِيَة أشهى»، وهَذَا هُوَ الصراع الَّذِى كَانَ يدور وقتها وَهُوَ أَيْضًا الصراع الَّذِى كَانَ يدور فِى نفس عَمْرو بْن الْعَاصِ وما زال يدور حَتَّى هَذِهِ اللحظة فِى تاريخ البشرية. ردَّ وردان عَلَى عَمْرو بْن الْعَاصِ بقوله: «أرى أن تقيم فِى منزلك فإذا ظهر أهل الدين -يقصد انتصر علىّ بْن أَبِى طالب- عشت فِى دينهم وإن ظهر أهل الدنيا -يقصد مُعَاوِيَة بْن أَبِى سُفْيَان- لم يستغنوا عنك» فقال عَمْرو بْن الْعَاصِ: «صحيح ولكن الآن بعد أن علم العرب بمسيرى إِلَى مُعَاوِيَة أصبح الأمر أصعب»، بمعنى أنه فِى هَذِهِ اللحظة كَانَ العرب قد وصل إِلَى ما معهم وأبنائهم أن عَمْرو بْن الْعَاصِ أظهر ميلا وَهُوَى إِلَى مُعَاوِيَة، بل ذهب إِلَى مقابلته وَهُوَ فِى الطريق إليه، ومن ثَمَّ فإن عَمْرو بْن الْعَاصِ لاَ يرى فِى الوقوف على الحياد وقتئذ فِى انتظار نهاية المَعْرَكَة أمرا سليما من حَيْثُ الذكاء والفطنة والدهاء.
إبراهيم عيسى يكتب: الدُّهَاة الأربعة «2»
مقالات -
إبراهيم عيسى