غادرنا أول من أمس شيخ وقديس وزعيم قبيلة الغناء العربى وديع الصافى، بعد رحلة مع الحياة امتدت 92 عاما، بينها قرابة 80 ظل فيها يصدح بالغناء، لم يفعلها أحد من قبل لا أم كلثوم التى غنت وهى طفلة ورحلت فى الـ75 من عمرها، ولا عبد الوهاب الذى رحل بعد أن وصل إلى شاطئ التسعين من عمره.. صحيح أنه استمر فى التلحين حتى اللحظة الأخيرة، لكنه توقف عن الغناء قبلها بخمسة عشر عاما، كان دائما وديع رفيق ليالينا وصديق أيامنا بصوته الحنون الصافى!!
أن تصل إلى القمة وتظل كل هذه السنوات متربعا عليها هذه هى المعادلة الصعبة، وهذا هو المستحيل، الذى استطاع أن ينجزه وديع الصافى فهو صوت الجبل، استطاع وديع بموهبته الاستثنائية أن يظل محتفظا بمكانته الأولى فى عالم الطرب.. صحيح أنه فى السنوات الأخيرة لم يعد قادرا على الحركة بسهولة خارج حدود لبنان، ولكنه ظل معنا من خلال الأغنيات التى تعرضها له الفضائيات!!
وديع الصافى أتيح لى أن ألتقيه بضع مرات فى القاهرة، أتذكر منها مثلا ندوة بنقابة الصحفيين عندما وجهت إليه الدعوة وسارع بتلبيتها دون أى شروط، ولم يحصل سوى على شهادة تكريم ورقية من النقابة، قال أمام الجميع إنها تعنى له الكثير، وبعدها بدأ فى الغناء بالعود وكان يصاحبه ابنه جورج لكى يذكره بكلمة أو يكمل مقطع من أغنية فى سهرة لا تنسى.
الفنان عادة ليس هو بالضرورة الإنسان، دائما هناك صورة ذهنية يتم تصديرها إلى الناس، إلا أن الفنان والإنسان وديع الصافى وجهان لعملة واحدة، بداخل هذا الفنان الكبير روح التسامح وقلب الطفل لا يزال يسكنه، وأروى لكم هذه الواقعة التى حدثت قبل نحو ستة أعوام، كان أحد المدعين قد انتحل شخصية ابنه وبدأ يتصل بالأثرياء يطلب المساعدة بحجة أن والده وديع الصافى يعالج فى المستشفى ولا يجد أموالا، وصدق هذه الحيلة عددا منهم، ثم وكالعادة فإن أى كذبة مهما طال بها الأمد يتم اكتشافها، وعندما علم وديع بذلك، طلب من قوات الشرطة التدخل وتم نصب كمين وإلقاء القبض على المجرم، فما الذى فعله وديع؟ ذهب إلى قسم الشرطة ثم التقى الجانى وفى أثناء التحقيق معه أكد النصاب أن الذى دفعه إلى ذلك هو حاجته إلى المال وطلب من وديع العفو عنه فغنى له وديع «الله يرضى عليك يا ابنى.. ظهرى انكسر والهم دوبنى».. وبكى الشاب تأثرا ومنحه وديع ما تيسر من أمواله القليلة!!
اسمه الحقيقى وديع فرنسيس، أما الصافى فلقد اشتهر صوته بالصفاء، وهكذا ارتبط به هذا التشبيه الذى صار بعد ذلك اسما له، فلقد اختبره أعضاء لجنة الاستماع بالإذاعة اللبنانية وهو لا يزال شابا صغيرا فى الثلاثينيات من القرن الماضى، وبعد أن بهرهم بغناء كل الأطياف الفنية منحوه بالإجماع لقب الصافى.. فى لبنان صار وديع العلامة الغنائية الأبرز مثل فيروز والرحبانية، رمز لبنان هو العلم المرصع بشجرة الأرز، لكن الفنانين الكبار يصنعون اسم البلد ورمزها ويصبحون هم العلم، فعندما يذكر اسم لبنان تتجسد أمامك مباشرة نبرة وملامح وديع!!
فى لحظة سماعى نبأ الرحيل وجدت نفسى أستعيد له «دار يا دار» التى لحنها بليغ حمدى وأداها بحالة من الإحساس والألق، إلى درجة أن بليغ كان يبكى وهو يستمع إليها بصوت وديع مثلما نبكى، فهو يعزف بصوته على أوتار قلوبنا «راحوا فين حبايب الدار»!!
من أشهر أغنياته التى أعاد تقديمها «الأطلال» لأم كلثوم سوف تشعر أن الأغنية مطعمة بمذاقه الخاص، منحها نبضا صافيا بعد أن كانت لا تحمل سوى النبض «الكلثومى».. كما غنى رائعة نجاة «أيظن» شعر نزار قبانى وموسيقى محمد عبد الوهاب، ومن المفارقات أن وديع الصافى قام بتغيير بضع كلمات لتتناسب معه كرجل، حيث إن نزار يقول «حتى فساتينى التى أهملتها» بينما وديع الصافى عندما غناها أحالها إلى «حتى سراويلى» إلا أن الناس عندما قال سراويلى بدأت تنتبه إلى أن الأصل هو «فساتينى» وضحكوا وبادلهم وديع الضحك، فى أحد لقاءتى معه ذكر لى عن هذه السهرة بينه وبين عبد الحليم حافظ بحضور عبد الوهاب عندما غنى حليم رائعة عبد الوهاب «كل ده كان ليه»، وبعد ذلك غناها وديع، وكان عبد الوهاب لا يتوقف عن الإشادة بوديع، فقال له حليم مداعبا «إحنا بعدك يا وديع نروح أحسن نبيع فى الصبح لبن»!!