تحدثت فى المقال السابق عن فيلسوف العلم، كارل بوبر، ورؤيته عن «المجتمع المنفتح».. أما برتراند راسل - وهو أهم مؤسس للفلسفة التحليلية- فاهتم أيضا بالفكر العلمى، ضمن دراسات فى فروع من المعرفة تبدو متباعدة، من أول أسس المنطق الرياضى حتى النقد الاجتماعى.. وخلال أوضاع الحرب العالمية الثانية الطاحنة، كتب «راسل» هو الآخر مرجعا طموحا عن «تاريخ الفلسفة الغربية»، تناول فيه فكر معظم كبار فلاسفة الغرب، (وبعض فلاسفة الشرق مثل ابن سينا وابن رشد)، فى محاولة لفهم أصول الفكر الشمولى الصاعد فى أوروبا آنذاك، وأيضا تتبع الخيط الفكرى المؤسس للديمقراطيات الليبرالية الناجحة.
يشرح «راسل» أن هدف محاولة فهم مقومات النجاح والفشل السياسى من خلال الفلسفة أساسه أن تصرفات المجتمعات، بما فى ذلك الأسس التى تبنى عليها نظامها السياسى، تعتمد على الخلفية النظرية التى تتبناها- أحيانا ضمنيا ولا شعوريا- ومع أن ما كان يعنى «راسل» هو الفكر الغربى، فكما شرحت فى مقالات عديدة، (مثلا «سيد قطب كمفكر غربى»، 16/3/2013)، فإن معظم ما هو مسيطر على المجال العام المصرى حاليا مستوحى من اتجاهات فكرية غربية أدت لصعود الشمولية، وللحروب والانهيارات التى سادت أوروبا فى النصف الأول من القرن العشرين.. فمنذ انهيار التجربة شبه الليبرالية فى مصر، قبل ستة عقود، لا نجد فى المجال العام المصرى تقريبا من هو مؤمن فعلا بالأفكار المؤسسة لمجتمع منفتح تعددى، فيبدو من الواضح أن النهج المسيطر يتأرجح ما بين الشمولية الدينية أو تأييد أنواع مختلفة من التسلط الفكرى والفعلى، والاندفاع خلف أفكار «ثورية» غير مدروسة التداعيات. لذلك، ربما من المفيد استرجاع ردود أفعال أمثال «بوبر» و«راسل» الفكرية للمحن التى وقعت فيها أوروبا فى الماضى.
كان رأى «راسل» أن كل مجتمع معرض لخطرين أساسيين: إما أن يظل راكدا تحت ضغط النمطية الفكرية والتسلط السياسى، فى ظل التمسك الأعمى بثوابت الأمر الواقع، وغياب النقد البناء الدافع للتغيير، وإما فى المقابل تسوده الفوضى نتيجة انهيار منظومة القيم والتماسك الاجتماعى، فى ظل سيادة الرفض والنقد الهدام وغير المسؤول لكل ما هو قائم، مما قد يؤدى فى النهاية إلى استبداد فكرى وسياسى جديد يحاول بسط نظام نمطى صارم باسم إعادة الاستقرار.
أما ما يضمن عدم الركود، ويحول أيضا دون تبلور تداعيات الـ«ثورية» غير المحسوبة والانهيار المصاحب، فيكمن فى تفادى الخمول عن طريق إتاحة الفرصة لكل الأفكار- حتى الجَسور والثورى منها- مع محاولة ضمان الاستقرار عن طريق تفعيل أداة النقد الدقيق والصادق فى عملية تفنيد الأطروحات وتداعياتها.
ماذا عن واجب الفرد فى هذا الإطار؟ لخص «راسل» موقفه من دور الفرد البانى لمجتمع منفتح ناجح فى صورة «وصايا الليبرالية العشر»، وهى باختصار:
1) لا تشعر بأنك على يقين تام بأى شىء. 2) لا تعتقد أنك بإمكانك التغاضى عن حقائق وأدلة الواقع. 3) لا تعمل على إلغاء التفكير العقلانى، لأنك ستنجح فى ذلك بالقطع. 4) عندما تقابَل بمقاومة لأفكارك من قِبَل مَن لك نفوذ عليهم، فلا تستخدم سلطانك لفرض رأيك، لأن النصر المبنى على التسلط واه. 5) لا تحترم الأفكار بناء على أساس هيبة ومقام مَن طرحها، لأنك دائما ستجد آراء مخالفة لقامات فكرية منافسة. 6) لا تستخدم القوة لكبت الآراء التى ترى الخبث فيها، لأنك لو فعلت ذلك فإن تلك الآراء نفسها قد تقمعك فى النهاية. 7) لا تَخْشَ الأطروحات غير المألوفة، فكل ما هو مقبول حاليا كان فى الماضى كذلك. 8) استمتع أكثر بالجدل الذكى من الإجماع السلبى، فستجد أن أوجه الاتفاق ستكون أعمق فى الحالة الأولى. 9) تَعامَل مع الحقائق بصدق، حتى لو كانت مقلقة، لأنها ستكون مصدرا أكبر للقلق فى حالة إنكارها. 10) لا تحسد من يتمتع بالسعادة، لأنه يعيش فى جنة مصنوعة من الوهم، لأن الأحمق فقط هو الذى يجد أى نشوة فى ذلك.
يتلخص ما سبق فى أن دور الفرد فى المجتمع التعددى الحر والمستقر هو عدم الانصياع لما هو نمطى أو مقبول، أو فى المقابل لنزعات «ثورية» غير مدروسة التداعيات. أما النظام السياسى فى ذلك المجتمع فيضمن استقلالية الفرد، ولا يخشى الأطروحات الجسورة، مع التزام القوى السياسية بوضوح الرؤية، وسرد تداعياتها بطريقة مفصلة، حتى يمكن تفعيل أداة النقد والتفنيد العقلانى وتفادى - فى آن واحد - الركود الاجتماعى والتجارب العشوائية المكلفة.