لا أظن أننا نعرف تاريخنا، لهذا نعجز عن التعرف على أنفسنا وتحديد هويتنا التى تبدو لنا، بعيدة عنا، غامضة منقسمة على نفسها ومتضاربة ومختزلة فى بعض عناصرها التى نراها أقرب إلينا وأوضح من غيرها.
ولأننا لا نعرف أنفسنا، فنحن لا نعرف ماذا نفعل، وماذا نريد، وفى أى اتجاه نسير، وما هى العقبات التى تعترض طريقنا، وكيف نتغلب عليها.
يجب أن نوجد حتى نريد ونختار. الوجود سابق على ممارسة الوجود، أو سابق على الماهية كما يقول فلاسفة الوجودية، وكيف نكون موجودين إذا كنا نجهل تاريخنا الذى لا نستطيع بدونه أن نعرف أنفسنا؟ نعم فالتاريخ الوطنى ليس مجرد معلومات نستظهرها أو نؤدى فيها امتحانات مدرسية، وإنما التاريخ الوطنى وعى بالذات، نسلطه على ما حولنا ونواجه به مشاكلنا المختلفة، فنفهمها ونبحث عن حلول لها، وإذا كنا نجهل تاريخنا الوطنى، فكيف نسمى أنفسنا.
لقد غيرنا اسم بلادنا ثلاث مرات أو أربعا فيما لا يزيد على عشرين سنة، مصر المملكة، وبعدها الجمهورية وبعدها الإقليم الجنوبى فى الجمهورية العربية المتحدة، وأخيراً جمهورية مصر العربية. ولو بقيت الجماعة المحظورة فى السلطة لأضافت اسماً جديداً إلى هذه الأسماء، تترجم به شعاراتها وتعلن به عن نفسها كما فعل آيات إيران، وكما فعل قبلهم القذافى فى ليبيا.
وقبل أن نتحرر من تبعيتنا لتركيا وننال اعتراف البريطانيين باستقلالنا، كنا نرى أنفسنا جماعتين مختلفتين أو حتى أمتين، فالمسلمون أمة والأقباط أمة أخرى، حتى اشتعلت الثورة الوطنية الكبرى ثورة 1919، فوحدت المصريين الذين أدركوا وهم يناضلون فى سبيل الحرية والاستقلال والتقدم أنهم ليسوا رعايا عثمانيين، وليسوا أمة قبطية، وإنما هم أمة واحدة، بل هم أقدم أمة فى التاريخ هى الأمة المصرية. غير أن هذه الأمة المصرية اكتشفت فى خمسينيات القرن الماضى أنها جزء من أمة أكبر هى الأمة العربية، التى أثبتت التجارب التى خاضتها طوال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات أن الاختلافات الموجودة بين الشعوب العربية لا تجعلها أمة بالمعنى المفهوم من هذا المصطلح السياسى، وبدلاً من أن نعيد الاعتبار للاسم الحقيقى الذى أهملناه وهو «الأمة المصرية»، ازددنا بعداً عن الحقيقة، فاعتبرنا أنفسنا جزءاً من أمتين اثنتين لا وجود لأى منهما كأمة واحدة! العربية والإسلامية، وإنما العرب شعوب متعددة مختلفة، والمسلمون أكثر تعدداً وأشد اختلافاً، ولا شك فى أننا عرب ومسلمون بثقافتنا المشتركة التى تجمع بيننا على اختلاف عقائدنا الدينية، لكننا قبل كل شىء مصريون، وهذه حقيقة لا تزال عن الكثيرين منا غائبة أو غامضة. ومن هنا تراجع الشعور بالانتماء الوطنى.
وإذا كنا لا نعرف أنفسنا ونتنكر لأصولنا وننتسب لغيرها، فكيف نواجه هذه الفتنة الطائفية التى تهدد وجودنا من أساسه.
لقد أدى بنا جهلنا لتاريخنا من ناحية وتجاهلنا للواقع الملموس من ناحية أخرى إلى إنكار وجود هذه المشكلة التى كانت تتفاقم كل يوم، وكانت تجد فى المكاتب الحكومية وفى الشوارع وفى المدارس وفى دور العبادة وأجهزة الإعلام من يتستر عليها ويخفيها، بينما ينفخ فى نارها ويغذيها حتى وصلت إلى ما رأيناه فى ماسبيرو، وفى الكاتدرائية، وفى دلجا، وفى ملوى، والمنيا وغيرها.
وإذا كنا نجهل تاريخنا، فأى طريق نختار؟ وفى أى اتجاه نسير: فى اتجاه الماضى، أم فى اتجاه المستقبل:
وقد يبدو هذا السؤال غريباً بعض الشىء، لأننا نعرف أن العودة إلى الماضى مستحيلة، وأن ما فات مات وكل ما هو آت آت، كما كان يقول قس بن ساعدة الإيادى فى خطبته الشهيرة التى كنا نحفظها ضمن النصوص القديمة المقررة علينا فى المدارس. وإذن فنحن محكوم علينا بالسير فى طريق المستقبل.
لكن هذا مجرد ظن والواقع شىء آخر، وما علينا إلا أن ننظر حولنا فى الشارع، وفى الصحف، وفى شاشات التليفزيون، وفى الانتخابات البرلمانية التى أجريت فى العام الماضى، لنجد أن لدينا عشرة أحزاب سلفية. عشرة أحزاب تنسب نفسها للسلف، أى للماضى الذى تعتقد أنه كان عصراً ذهبياً، وأنه رغم ما كان فيه من الفقر والجهل والسخرة والعبودية أفضل من الحاضر، وإذن فعلينا أن نتجه إليه وأن نستعيده، فإذا لم نكن نستطيع أن نعود بأقدامنا إلى الماضى الذى ذهب إلى غير رجعة، فلنعد بناءه من جديد، ولنجعله حاضراً ومستقبلاً كما يريد السلفيون وغيرهم، ممن يطالبون بإحياء الخلافة الإسلامية، ويعترضون على تسمية مصر فى الدستور دولة مدنية، ويعتبرون الديمقراطية شركاً، لأن الديمقراطية تجعل الحكم للشعب، والسلفيون يقولون لا حكم إلا لله، فالذى يقول إن الحكم للشعب مشرك فى نظرهم. وباستطاعتنا أن نستنتج مما يقوله السلفيون فى السياسة ما يقولونه فى الاجتماع والاقتصاد والعلم والفن، وأن نعرف موقفهم من العقل والمرأة ومن حرية التفكير والتعبير والإبداع والاعتقاد، ومن العصر الحديث ومن كل ما فيه لنقول ونحن مطمئنون: إنهم يريدون أن يعيدونا إلى الوراء ألف عام على أقل تقدير.
وإذا كنا نجهل تاريخنا، كيف نتصل بالأمم الأخرى؟ كيف نعرف غيرنا إذا كنا لا نعرف أنفسنا؟ وهل نستطيع أن نعيش منعزلين فى هذا العالم الذى أصبح كما يقال قرية كونية؟ وهل يتركنا الآخرون لا يطرقون علينا الباب ولا يخرجوننا من عزلتنا لنشاركهم حياتهم ونشاطهم فى هذه القرية الكونية؟
ونحن نعرف أن هؤلاء الآخرين عرفونا قبل أن نعرف أنفسنا، بل هم الذين عرّفونا بأنفسنا وأزاحوا الرمال عن تاريخنا واكتشفوا أسرار كتابتنا وقرأوا لغتنا وعلمونا كيف نقرؤها؟. فهل نظل على جهلنا بأنفسنا، أم أن الأوان قد آن لنستدرك ما فاتنا ونعرف تاريخنا على حقيقته؟، هذا التاريخ العريق الحافل المتنوع الذى نستطيع أن نحوله إلى طاقة إيجابية تقوى عزمنا وتلهمنا وتفسح لنا مجال الاختيار وتفتح أمامنا الطرق بدلاً من أن يكون كما هو الآن ميراثاً مجهولا وعبئا ثقيلاً لا نعرف ما فيه ولا نستطيع مع هذا أن نتخلص منه، بل نحن مضطرون لحمله والسير به، فإن سولت لنا أنفسنا بين الحين والآخر أن نلقى عليه نظرة، فنحن لا نراه إلا أطرافا متناثرة وأجزاء مبعثرة تفسد علينا معرفتنا لأنفسنا، وتشل حركتنا وتعرضنا لما تعرضنا له من قبل، ولانزال نتعرض له حتى الآن، وسوف أختم هذه المقالة بنموذج مما كان يعرفه كبار علمائنا إلى أوائل القرن التاسع عشر عن أجدادنا الفراعنة. فى رسالة كتبها الشيخ عبدالله الشرقاوى شيخ الأزهر عن تاريخ مصر وسماها «تحفة الناظرين فى من ولى مصر من الولاة والسلاطين» يقول: «إن أقصر الفراعنة أعماراً كانت سنه مائتى سنة، وكان أطولهم عمراً سنه ستمائة سنة، وأن فرعون موسى كان قصيراً طوله سته أشبار، وطول لحيته سبعة. وقيل كان طوله ذراعا واحداً، وأن هذا الفرعون بقى على عرش مصر خمسمائة سنة»، ولا أظن أن معرفة الكثيرين منا عن الفراعنة حتى الآن تختلف كثيراً عن معرفة الشيخ الشرقاوى.