ليس حديث «الإخوان» عن شرعية سلطة الرئيس السابق محمد مرسى إلا نوعاً من الاستغراق فى شعار مفارق للواقع، ولا يختلف شعار الشرعية كما يرفعونه الآن عن الشعارات التى استخدموها من قبل إلا فى كونه شعارا غير دينى، ومع ذلك، ولأن الطبع يغلب التطبع، فقد قرنوه أحيانا بشعار دينى جعلوه جزءا من تجارتهم السياسية لفترة طويلة هو الشريعة (الشرعية والشريعة) رغم عدم وجود أى علاقة بين الشعارين، ولا معنى لرفع شعار الشرعية فى هذا السياق إلا الزعم بأن الفائز بالانتخابات يملك التحكم فى مصير البلاد والعباد ويصبح فوق القانون لمجرد أنه منتخب. ويناقض هذا الزعم جوهر المبدأ الديمقراطى، وهو أن الانتخابات لا تمنح تفويضا مطلقاً تحت أى ظرف، ولا تحصن الفائز بها ضد النقد والمحاسبة والمساءلة وصولا إلى العزل. ولذلك ينطوى شعار الشرعية بالطريقة التى يستخدمه أنصار مرسى بها على تقديس مفاجئ للانتخابات، بعد أن كان كثير منهم يرفضها ويعتبرها مستوردة من الغرب ويضعها فى تعارض مع الشورى وفق فهمهم المحدود لها. والمفارقة الكبرى فى هذا التحول الدراماتيكى أن بعض من باتوا يتحدثون عن شرعية الانتخابات بطريقة لا تخلو من تقديس كانوا يعتبرونها ضربا من ضروب الكفر. وهكذا أدى تغير المصالح إلى تحول جماعات وقوى ترفع شعارات دينية من النقيض إلى النقيض خلال أشهر قليلة فى موقفها تجاه قضية الديمقراطية بشكل عام والانتخابات بوجه خاص.
كانت الديمقراطية لدى هذه القوى فكرة غربية تتعارض مع الإسلام وتصطدم مع شريعته، ولذلك أوسعوها هجوما وذما وصبوا عليها اللعنات. وتفاوت حكم هذه الجماعات على الديمقراطية بين المعصية والكفر.
ولكن هذا التفاوت كان يضيق كلما اتسع نطاق الحديث عن الديمقراطية ودخل فى تفاصيلها، وخصوصا عند التطرق إلى الانتخابات ودور البرلمانات فى التشريع. فكان معتادا إطلاق أحكام تكفّر الانتخابات التى يمارس فيها الشعب سيادته وتؤدى إلى وجود برلمانات تعبر عن الإرادة الشعبية وتصدر تشريعات يلتزم بها المواطنون ويحتكمون إليها ويحكم القضاء بينهم على أساسها.
فقد فهم كثير من تلك الجماعات الانتخابات بهذا المعنى المعروف فى أى نظام ديمقراطى باعتبارها ممارسة لنوع من أنواع الشرك بالله، عز وجل، بدعوى أن من يشارك فيها إنما يضع «شركاء» لرب العالمين. وربما تخيل بعض أعضاء هذه الجماعات أن النواب فى البرلمان كالأصنام التى كان الناس يصنعونها فى الجاهلية.
كما أن الفكرة التى تقوم عليها الشرعية الانتخابية، وهى أن السيادة للشعب، كانت مزعجة لقادة تلك الجماعات، لأن عدم إلمامهم بأسس الفكرة الديمقراطية جعلهم يظنون أن فى إقرار هذه السيادة انتقاصا من الخضوع للمشيئة الإلهية.
أما الطامة الكبرى التى كانت تدفع بغضب بعضهم على الانتخابات إلى قمته، فهى أنها الطريق الذى يؤدى إلى ما يظنون أنه (الحكم بغير ما أنزل الله) دون أن يعرفوا معنى الحكم ولا حقيقة ما أنزل الله، رحمة بالناس وليس تعذيبا لهم.
ورغم هذا كله، فقد تغير موقفهم من الانتخابات بل تحول لدى بعضهم إلى نقيضه، عندما تبين لهم عقب ثورة 25 يناير أن تركة العقود الماضية تمكّنهم من الفوز فيها، وأن الدعاية الدينية تُحدث أثرا كبيرا فى نفوس قطاع يُعتد به من الناخبين، وأن كثرة المال الانتخابى الذى يستطيعون توفيره تؤتى ثماراً فى صناديق الاقتراع.
ولم يقتصر التحول على انتقال من رفض للانتخابات بلغ لدى بعضهم مبلغ اعتبارها نوعا من الكفر، بل وصل إلى حد إضفاء ما يشبه القداسة عليها، سعياً لاستخدام نتائجها وسيلة لتقييد المعارضة والادعاء بأن نقد سياسة السلطة المنتخبة يعنى عدم قبول نتائج هذه الانتخابات أو عدم احترامها. ويعنى ذلك أن يفعل الفائز بالانتخابات ما يشاء دون مساءلة أو محاسبة، لأنه جاء عن طريق الانتخابات، الأمر الذى يناقض الأساس الذى تقوم عليه فكرة الانتخاب نفسها.
وربما لا يعرف من اختلفت مصالحهم فباتوا ينظرون إلى الانتخابات هذه النظرة التى تنطوى على تقديس، بعد أن كانوا يرون فيها نوعا من الشرك بالله تعالى، أنها عملية نسبية وليست مطلقة. وغريب، أصلا، أنهم لا يعرفون أنه لا مطلقات فى حياة البشر إلا ما يتعلق بالإيمان بالله. ولأن الانتخابات لا تدخل فى هذا الإطار، فهى عملية نسبية لا تمنح الفائز تفويضا مطلقا ولا تعصمه من المحاسبة، بل العزل إذا ارتكب خطأ جسيماً.
فلا قداسة إذن فى الانتخابات، ولا شرعية لمن يفوز فيها ويرتكب أخطاء جسيمة تخلق خطرا شديدا إذا استمر فى السلطة حتى نهاية دورته. ولا يجوز عندئذ التذرع بشرعية لا تعدو أن تكون، فى هذه الحالة، شعارا منبت الصلة بالواقع.