عندما يرى المصريون أمرًا سيئًا، وقد أصبح حسنًا، يقولون جملتهم الخالدة: «خلق من الفسيخ شربات». هذه الجملة تروج لها بشكل أو بآخر لجنة الخمسين التى كلفها الشعب المصرى بكتابة دستور جديد يعالج فى الحد الأدنى كوارث الدستور، الذى كتبته عصابة حسن البنا، لكن ما يتسرب من أخبار عن اتجاهات اللجنة لإعادة مجلس الشورى إلى الحياة السياسية ثانية لا يبعث على الاطمئنان، وذلك لأن اللجنة تضم عددًا من الذين شاركوا فعلًا فى الثورة المصرية، ولم يعتلوا موجتها، وهؤلاء يدركون بداهة أن الشعب المصرى قد ضاق ذرعًا بما يسمى مجلس الشورى، بل لعلهم لم تغب عن ذاكرتهم حالة اللا مبالاة التى قابل بها المصريون حريقًا شب فى أخريات عهد مبارك فى مجلس الشورى، والتهم بعضًا من سجلات ووثائق الحياة السياسية المصرية.
وما كانت لا مبالاة المصريين سوى تعبير منهم عن موقفهم الرافض بل الساخر من تجمع لا يعرفون حقًا ما مهامه ولا يعرفون شيئًا عن دوره فى حياتهم النيابية.
إن ما يسمى بمجلس الشورى هو اختراع ساداتى بامتياز، أراد الرئيس الأسبق من خلاله ترسيخ صورته بوصفه رب العائلة المصرية، وكأن مصر بجلالة قدرها قد تحولت إلى «مصطبة» يحكمها عمدة فى أثناء رشفه أكواب الشاى مع مشايخ وأعيان القرية!
لا يوجد ثمة رابط بين مجلس الشيوخ الذى كان فعالًا قبل ثورة يوليو 1952 وبين مجلس العائلة الساداتى، لأن الأول كان له دور معلوم، وكان يقوده غالبا علمُ من أعلام السياسة المصرية، أما مجلس السادات فهو كيان صورى يستخدمه الحاكم متى شاء كيف شاء، وهو نفسه الدور الذى لعبه هذا المجلس فى عهد المخلوع مبارك، فقد سيطر حسب تشريعات الحاكم على مقاليد الحياة الصحفية المصرية سيطرة تعويق لا سيطرة مساعدة ومساندة، ثم أصبح تجمعًا لهؤلاء الذين تريد السلطة استرضاءهم أو شراءهم من خلال ضمان عضوية بالتعيين لا بالانتخابات، وتلك العضوية تضمن بدورها وجاهة اجتماعية وسفريات ومكافآت مادية وفوق كل ذلك تضمن حصانة يستغلها البعض فى التغطية على جرائم يرتكبونها، وهم فى مأمن من الحساب، ولعلنا جميعًا نذكر فضائح نواب سميحة أو نواب القروض أو نواب العلاج المجانى، بل وصل أمر بعضهم إلى أن أصبح معروفًا بنائب الكباريهات!
إن أدنى مراجعة لمعدلات إقبال المصريين على التصويت فى انتخابات مجلس الشورى ستدل بلا شك على الموقف الرافض له، حتى فى فترة إقبال الشعب على الذهاب إلى صناديق الانتخابات عقب الثورة فقد ذهب حوالى 7% من الناخبين للإدلاء بأصواتهم فى انتخابات مجلس الشورى، الذى لم تهتم أحزاب كثيرة بأن تقدم مرشحيها ليخوضوا سباق انتخاباته، وهو الأمر الذى جعل المتمسحين فى الإسلام من عصابة حسن البنا وأعوانهم يظهرون كما لو كانوا أغلبية برلمانية، وهو الأمر الذى استغله المخلوع مرسى أشنع استغلال عندما عهد لمجلس الشورى بالسلطة التشرعية بحجة غياب مجلس الشعب.
إن الترويج لإحياء هذا المجلس الذى لم يسهم بشىء فى تطوير الحياة السياسية لهو أمر غريب جدا، لأن المروجين يعتمدون على شعارات غامضة كقولهم إن مسماه سيصبح مجلس الشيوخ بدلا من الشورى، وإن سلطات جديدة ستضاف إليه.
ولقد سمعت أحدهم يقول فى سياق ترويجه إن ميزانية الشورى قليلة تبلغ حوالى 170 مليون جنيه سنويا. وهذا تبرير عجيب، وكأننا بلد يسبح على بحيرة من الدولارات لا بلد يقترض لكى يسدد فاتورة طعامه وشرابه، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لا تجد أحدًا يتحدث عن تكاليف انتخابات هذا المجلس التى تتجاوز المليار جنيه، ثم لا يتحدث أحد عن المساندة العجيبة التى يبديها قياديون فى الحزب الوطنى المنحل لعودة هذا المجلس، بوصفه البوابة الخلفية التى سيعودون من خلالها إلى المشهد السياسى بعد أن أسقطهم الشعب من حساباته فى انتخابات البرلمان الماضية.
على السادة المروجين أن يدركوا أن ماء الفسيخ شىء والشربات شىء آخر، ولن يلتقيا إلا فى أذهان الباحثين عن الزفارة.