.. أستطيع أن أفهم (من دون أن أتفهم) الدوافع الأيديولوجية التى جعلت الكاتب الكبير الأستاذ فهمى هويدى يعيّن نفسه محاميا مستديما بالحق أحيانا وبالباطل أغلب الوقت، عن جماعة الشر الإخوانية وأخواتها وتوابعها من الجماعات والحركات الإرهابية والظلامية الأخرى، ويسخِّر قلمه وموهبته وخبرته الصحفية الطويلة لتسويغ عربداتها السياسية ومحاولة تبرير أو التهوين والتخفيف (عندما يكون الإنكار مستحيلا) من جرائم شنيعة وارتكابات مشينة، كنت وما زلت أظن أن أمثال هذا الرجل قدْرًا وقامة ليس يليق بهم إلا الاعتراف بها وإدانتها بغير لف ولا دوران وعلى نحو صريح وقاطع.
غير أن الأستاذ هويدى حُرّ فى اختياره طبعًا ولا يملك أحد لومه عليه حتى لو كان ممن يحبونه ويعرفون قدره مثل العبد لله الذى لطالما شعر بما هو أكثر كثيرا من الصدمة وهو يقرأ للأستاذ فى العامين الأخيرين بالذات، نصوصا تجاوزت كل حدود الالتزام الأيديولوجى ولامست فى مناسبات عديدة حدود المصيبة السوداء.. مثل ذلك المقال الذى نشره يوم الإثنين الماضى فى زاويته اليومية بصحيفة «الشروق» تحت عنوان «أكذوبة جهاد النكاح»!
وكما هو واضح من العنوان فإن الأستاذ فهمى جاهد بإخلاص فى سطور مقاله لكى يدفع تهمة ارتكاب هذه الفضيحة الشنيعة عن جماعات الشذوذ العقلى والخراب الروحى التى عين نفسه محاميا لها، وقد توسل إلى تحقيق هذا الهدف بقدرته غير المنكَرة على المداورة والمناورة وقصّ ولصق الأخبار والمعلومات وإعادة هندستها وتركيبها على نحو يلقى فى روع القارئ أن وقائع مادية وجرائم يندى لها الجبين مؤيدة بفيض هائل من القرائن، سقط ضحيتها عدد غير معروف من الفتيات العربيات الصغيرات خصوصا التونسيات، ليست سوى «أكذوبة» اختلقها وروّجها «أبالسة المخابرات السورية لطعن وتشويه فصائل مقاومة النظام هناك»!!
هكذا كتب الأستاذ هويدى.. طيب إلى ماذا استند سيادته؟ إلى شيئين اثنين أساسيين: أولهما «الإعلام الفرنسى» ممثَّلًا فى صحيفة «لوموند» وقناة «فرنسا 24» فقط لا غير. والثانى هو هذا الإعلام الفرنسى أيضا، الذى ذكر أن وزير الداخلية التونسى لطفى بن جدو تحدث فى الموضوع وكشف تفاصيل هذه الفضيحة المأساوية رسميا أمام أعضاء المجلس التأسيسى (البرلمان) لأنه «على خلاف مع حركة النهضة» الإخوانية الحاكمة!!
إذن ما دام «الإعلام الفرنسى» هو منبع معلومات الأستاذ فهمى هويدى ووسيلته الوحيدة لإثبات براءة موكليه الإرهابيين من فضيحة «جهاد نكاح» بناتنا والتغرير بهن، فإننى مضطرّ إلى تكذيب «تكذيب» سيادته مستعينا بالأخبار والتقارير والمعلومات المنشورة فى هذا «الإعلام» عينه الذى امتدحه الأستاذ وأبدى إعجابه بموضوعيته، وأبدأ بالآتى:
أولا- فى اليوم نفسه الذى نشر فيه الأستاذ مقاله المذكور (الإثنين 7 أكتوبر الجارى) بثَّت قناة «فرنسا 24» تقريرا خبريًّا مطولا (ما زال موجودا على موقعها الإلكترونى) عن دعوى قضائية أعلن أمين عام نقابة الدعاة التوانسة الشيخ فاضل عاشور اعتزام النقابة إقامتها ضد وزير الشؤون الدينية فى الحكومة التونسية نور الدين الخادمى(الإخوانى النهضوى) لأنه لم يحاسب بل ما زال «يحمى عددا من الأئمة أفْتوا بجواز جهاد النكاح، وتسببوا فى سفر العديد من الفتيات التونسيات إلى سوريا ليعودوا منها وهن حوامل سفاحًا»!!
ثانيا- كانت القناة التليفزيونية نفسها قد نقلت عن كالة الأنباء الفرنسية (لاحظ) فى أبريل الماضى تصريحًا أدلى به وزير الشؤون الدينية التونسى المذكور أعلاه قال فيه: «إن فتوى جهاد النكاح لا تلزِم الشعب التونسى ولا مؤسسات دولته» (يعنى اعترف بوجود الفتوى)، وأضاف: «هذه الأمور مرفوضة»، ودعا إلى ما سماه «مقاربات علمية وإعلامية من أجل تسوية هذه الوضعيات»!!
ثالثا- نقلت قناة «فرنسا 24» فى العشرين من الشهر الماضى مقتطفات مطولة من الكلمة التى ألقاها وزير الداخلية فى حكومة حركة النهضة التونسية الإخوانية أمام المجلس التأسيسى وفضح فيها جريمة تجنيد «أعداد من الفتيات التونسيات وتسفيرهن إلى سوريا لممارسة ما يسمى جهاد النكاح هناك، وقد عاد العشرات منهن إلى تونس وهن حوامل بعدما تداول عليهن جنسيا 20 و30 و100 مقاتل من جبهة (أو عصابة) النصرة»!!
رابعا- فى شهر مايو الماضى بثَّت القناة نفسها تحقيقا مصورا عن هذه الفضيحة استعانت فيه بخبر كانت قد بثَّته عدة وكالات إخبارية عالمية (منها وكالة الأنباء الفرنسية) تناول أزمة عزل مفتى الديار التونسية الشيخ عثمان بطيخ بعد أيام من تصريح غاضب كان قد أدلى به يوم 19 أبريل الماضى، وكشف فيه «عودة 16 فتاة تونسية تم التغرير بهن وإرسالهن إلى الأراضى السورية من أجل ما يسمى جهاد النكاح»، الذى اعتبره الشيخ الجليل مجرد «بغاء» و«فساد أخلاقى» مروّع!!
و.. ضاقت المساحة، فأُكمل غدا باقى ما تيسر لى من تقارير وأخبار وتحقيقات نشرتها وسائل الإعلام الفرنسية، تؤكد أن تكذيب الأستاذ فهمى هويدى لفضيحة جهاد النكاح ليس إلا كذبة عكسية للأسف الشديد.. كما أَعِد الأستاذ والقراء الأعزاء بمفاجأة أرجو أن تبهج وتسرّ سيادته.