تتحدثين عن الحياء -الخجل- بطريقة توحى بأنه يجعلك «تأتين على نفسك» وتظلمينها، وأنه مضيِّع لحقوقك لأنك تخجلين من المطالبة بها «دا أنا لو لىَّ باقى باتكسف أطلبه».
لكنك لا تنظرين إلى شىء آخر يمنعك الخجل منه. لا تنظرين إلى النصف الآخر من اللوحة.
الإنسانة الخجولة إنسانة بخيلة دون أن تقصد، بخيلة بُخل أحمق، دافِعُه ليس الشُّحّ، بل تجنُّب المواقف ذات المشاعر الفياضة، أو تجنُّب المدح المباشر ونظرات الامتنان، هذه أيضا ترهقها. أى أنها كما تخجل من الأخذ تخجل من العطاء، كما تخجل من المطالبة بحقها تخجل من التعبير عن مشاعرها، ولا تجيد توصيلها. وهى كما تخجل من الوجود فى المناسبات الاجتماعية المفرحة تخجل من الوجود فى لحظات احتياج الآخرين إلى الدعم.
المشهد كما يراه الآخرون من الخارج تبدو فيه الخجولة عاجزة عن تقديم الحب حتى لو كانت مليئة بالمشاعر (أنا دايما اللى جوايا أكتر من اللى باظْهِره)، وغائبة عن لحظات احتياج الآخرين إليها، ومقتصدة إلى درجة مفزعة فى إشاعة البهجة، دون أن تدرى، دون أن تقصد. تريد أن تعبِّر عن مشاعرها نحو الآخرين، ولكن يمنعها الخجل. تريد أن تقدم خيرًا، تريد أن تُظهِر الوُدّ، ولكن يمنعها الخجل. تريد أن تحسّن حياتها لكى تتحسن حياة مَن حولها، ولكن يمنعها الخجل من ملاحقة الترقّى. فالحياء كسل شعورى، يحجز الإنسانة فى مكانها، ويهوّل لها مواجهة الآخرين، طلبًا لحق، أو منحًا لاهتمام.
الآخرون يتلقّون المشهد بطريقة مختلفة جدا. يرون تصرفات الخجولة على أنها برود ولا مبالاة.. وعدَّاهم العيب.
الكارثة الأخرى أن الخجولة، كونها تمتلك مشاعر صادقة، وكونها تريد أن تقدم، فإنها تنقم على «الآخرين» الذين لا يدركون ذلك، الذين لا يفهمونها، الذين لا يبذلون جهدا لكى يروا «الحقيقة» دون أن تضطر هى إلى التنازل والتكرم والتعبير عنها. بمعنى أنها تلومهم لأنهم لا يستطيعون أن يشعروا بما بداخلها. كيف لا يقدِّرون «حقيقة»؟ لا تدرى أن حقيقة مشاعرها ليست أكثر من صندوق مغلق، لا يرى الآخرون منه شيئا، وأن ما يعنى الآخرين هو السلوك الظاهر الذى يعبِّر عما داخل الصندوق، وليس ما داخل الصندوق. بمعنى أن الأهم للآخرين من الصدق هو التعبير عن الصدق، لا يعنى أحدا أن يكون فى قلبك طن من صدق إن كنتِ لا تُظهرين لهم ولو كيلوجراما منه، كما لا يعنى أحدا أن يكون داخلك فدان من الحب إن كنتِ لا تقدمين لهم قيراطا منه.
لذلك قلت إن الحياء -فى وجهه الآخر- بُخلٌ غير مقصود. اكتناز بلا إنفاق. لا من عدم رغبة فى الإنفاق بل من استثقال لمهمة الإنفاق. وهل يعذر البخيلة أن تقول «إزاى، دا أنا عندى ثروة»!
وأنا أريد من حديثى هذا غرضين:
١- أولا أن نكفّ عن مدح الحياء عمّال على بطّال. الحياء صفة معوّقة. وليس مقابلها البجاحة كما قد تتصورين، إنما مقابلها الجرأة والثقة بقدرتك على التعامل فى لعبة الحياة.
٢- أن ندرك أن كل صفة فى الدنيا لها جانبها السيئ، وأن نكفّ عن التفكير فى الصفات من زاوية أنفسنا فقط، بأن نوحى بأنها -لو سيئة- فنحن المتضررون منها لا غيرنا. أبدا. صفة كالحياء سيئة بالنسبة إلى من حولك أيضا، بل إن معظم مساوئها للمقربين منك، لكنك لا تدرين. وتركيزك على تقييمها من وجهة نظر نفسك أنانية خفية. كما أنه يزين لك الاستمرار فيها. ويزين لك ممارسة الصعبنة والإحساس بالمظلومية.
ثم إن الحياء يجعلك -دون أن تدرى- إنسانة متطلبة، تعتمد على الآخرين فى التعاملات اليومية كما فى المشاعر، تعتمد على ما يجود به الآخرون، تريدهم أن يعطوها دون حتى أن تكلف نفسها عناء الطلب، والتعبير عن الامتنان إذ تناله. والحياء يجعلك عبئا فى الجلسات، وسببا لتوتر مَن حولك. فلا تسعَدى كثيرا وأنت تتلقين مدح الأقارب عن حيائك، ولا كونك «قطة مغمضة». دا كان مناسب لما كانت المرأة مطلوبة كبطة فى البيت.
وهنا نذكر المثل الشعبى العبقرى: اللى يستحى من بنت عمه مايجيبش منها عيال. يعنى الحياء عقيم. الحياء لا يقدم ولا يدفع الحياة إلى الاستمرار. فتعاملى معه كعيب يَحول دون تحسين فرصك فى الحياة.