لن تكتب المعركة الدائرة على الأرض هذه الأيام مشهد النهاية، ولن ينهى القبض على قيادات الجماعة أو حتى على مثيرى الشغب من أنصارها الصراع الحالى، فالمعركة الموازية معركة أكبر وبها سيتحدد مصير هذه البلاد لسنوات طويلة قادمة. هى معركة صورها البعض على أنها صراع بين معسكر كفر ومعسكر إيمان ولذلك حشدت الآلاف ممن ظنوا أنهم فى جهاد مقدس لنصرة الدين. إنه الحلم بدولة الخلافة الذى طال انتظاره والذى يهون أمامه كل غال، هو ذلك المشروع الإسلامى الذى تطلع إليه شباب الجماعة قبل شيوخها بكل ما يحمله من أبعاد سياسية وجغرافية واقتصادية. فلا عجب إذن أن تتجدد المواجهات الشرسة كلما شعروا أن الحلم يتبدد أو يقارب على الانهيار ويسلطون سهام انتقامهم ضد كل من يحول دون تحقيقه وفى مقدمتهم الجيش الذى أجهض المشروع بأكمله وقلب الموازين رأساً على عقب. لن تفلح محاولات أصحاب القرار فى إقصاء هؤلاء من المشهد أو الرجوع بالزمن للوراء ظناً منهم أن بالإمكان إبادة فصيل بجرة قلم أو بحكم قضائى، ويخطئ من يظن أن التعامل الأمنى أو حظر وجود الجماعة سيحسم الأمر. فالحرب الحقيقية بين أفكار لن يسهل وأدها، فالأفكار كفيلة أن تبقى من يؤمن بها على قيد الحياة. هى معركة أيديولوجية يحمل أصحابها عقيدة مختلفة. فريق يرى أصحابه أنهم جنود الله الحقيقيون المدافعون عن الحق، لا يشغلهم كثيراً الدفاع عن الوطن وتراب أراضيه فالوطن بالنسبة لهم مجرد حدود جغرافية تتكامل مع غيرها لرسم كيان أكبر، ولا تعنى حماية تخومه لهم الكثير طالما امتد واتسع ليشمل أرض الخلافة. وبالتالى يهون الوطن أمام تلك الدعوة المقدسة والفكرة الأم. عند هؤلاء لا يستحق الوطن الشهادة أما المشروع الإسلامى فيضحون من أجله بكل ثمين.
لا يفهم هذا الفريق لماذا يواجه بكل هذا العداء والرفض، يجد نفسه اليوم مجبراً على الاختيار بين ما تربى عليه من ثوابت وبين منظومة جديدة من القيم عاش فى عزلة عنها لسنوات. اختيار بين مبادئ متناقضة لا يفهمها ولا يعرف كيف يحسم أمره فيها، فيتعجب كيف يرى البعض فى الدين ما يمكنه أن يرفع شأن الوطن بينما يدفعه قادته لكراهية الوطن باسم الدين، يجبرونه على الاختيار بين ما يظن أنه طاعة أوامر الخالق ونصرة دينه وبين الانتماء لهذه الأرض، يأمرونه بسفك دماء جنود هذا الوطن ويصورونه له كدرب من دروب البطولة، فينتهى به الأمر متشككاً فى كل الثوابت والقيم، يبحث فى الدين عبثاً عما يستند إليه ليبرر أفعاله فيكتشف أنه يفقد مزيداً من الأنصار ويدخل فى صراع مع دوائر أكبر من أبناء الوطن، يفشل فى إعمال العقل فيتهم من يخالفه فى الرأى بالكفر والخيانة.
فى معادلة العلاقة مع الله والوطن والآخر اختل توازنه ولم يجد فيما تعلم ما يعينه على تجاوز هذه المحنة. فى رحلة الحياة لم يدرك أن هذا الثالوث يخلو من أى صراع ولم يجد من يساعده على فهم فلسفة الخالق الذى منحنا الحق وجعل من الدين مصدراً للعيش فى اتساق مع الله والوطن والآخر.