لم تكن ماسبيرو حدثا عابرا.
وسيظل 9 أكتوبر لحظة فارقة فى وعى عمّدته الدماء التى أهدرها ضباط قتلة عندما أصدروا أوامر بقتل المتظاهرين ودهسهم بالمدرعات.
هذه نقطة ستلقى بظلالها على النظرة إلى طبيعة التحولات فى العلاقة بين الجيش والدولة أو بين الدولة والشعب، هل ستظل الدولة تحمى المسؤولين عن الجرائم فيها؟
أحد الأعمدة المؤسسة للدولة الحديثة هى المحاسبة، ونزع القداسة عن كل مرتكب جريمة ولو كان ملكا، حاكما، ابن سلالة دم أزرق أو أخضر أو كاكى.
وكما كان مستفزا لقطاعات واسعة من شعب مصر استضافة قتلة السادات فى احتفال المرسى وجماعته بانتصار أكتوبر، كان ظهور حسين طنطاوى فى احتفال هذا العام مثيرا لحزن واسع وإشارة إلى أن هناك «حماية»، و«خروجا آمنا» لكل كبير فى السلطة، فهو على الأقل مسؤول سياسيا بحكم منصبه عن ثلاث مذابح: ماسبيرو ومحمد محمود وبورسعيد.. وهى المسؤولية نفسها التى يحاكم مبارك وسيحاكم المرسى عليها.. مبارك وجد من الأجهزة من يمرره منها، والمرسى قد يفلت هو الآخر لو انتهت المفاوضات غير المعلنة مع الإخوان إلى «صفقة» فى خروج آمن جديد.
دون محاسبة لن ينتهى الاحتقان الحالى، لأنه لا ديمقراطية دون عدالة، ولا شعور بأن لا أحد فوق المساءلة، والمحاكمة ليست انتقاما سياسيا، أو «كبش فداء» إرضاء لجماهير غاضبة، أو ورقة ضغط.
هناك جرائم لا تُنسى وعدم المحاسبة فيها يفقد المجتمعات جهاز المناعة، وهذا ما يجعل هزيمة يونيو مؤثرة رغم انتصار أكتوبر، الذى لم يكن من الممكن حدوثه إلا بتضامن مشاعر جماعية واسعة فى سنوات، الاستنزاف، أو انتظار النصر.
لكن السلطة وباحتكارها لكل شىء حولت النصر إلى مكسب جديد لتقوية سلطتها، وهذا ما جعل الناس فى مصر تنتظر سعادة بعد النصر فلم تأت إلا إعادة هندسة المجتمع وفق «انفتاح سداح مداح» كما وصفه أحمد بهاء الدين، وكما تحولت فيه الدولة إلى ملعب للغرائز المتوحشة.
ولم تأت لحظة جماعية تشبه أكتوبر 1973 إلا بعد 30 يونيو، حيث الشعور بالخطر وانتظار النصر على من تعاملوا مع الحكم على أنه «غزوة واحتلال».
هذه اللحظة تاريخية ليس فى إعادة تصنيع الأوبريتات، أو صناعة تماثيل لبطل شعبى، ولكنها لحظة ستكون تاريخية إن لم تكن تأسيسية لدولة القانون والمساواة.
ولن يحدث هذا بترويج أساطير تحمل الإخوان كل الجرائم على طريقة اللص الذى يمسكونه ومع جريمته «يشيلوه حزمة الجرائم كلها..».
لن يؤيد الشعب الإرهاب ولن يتعاطف مع الإخوان، لكنه لن يرضى بما يحدث بعد كل حرب أن تتم حماية المسؤول عن الجرائم واقتسام السلطة كغنيمة وفتح الأبواب للحبايب والمحاسيب وفرق النفاق الرخيص.
نحن فى لحظة عابرة ستنتهى كما انتهت لحظات المجلس العسكرى وكما انتهت لحظة الجماعة ومندوبها فى القصر.. وسيتحول كل فخر إن لم يرتبط بطموحات الناس إلى دليل من أدلة الاتهام.
هذه لحظة عبور لن تنسى فيها الجرائم، ولن يغفر لمن يسرق النصر.
لحظة لن ننسى فيها بطولة الجنود والضباط فى أكتوبر 1973 ولا دماء الشهداء فى ماسبيرو.