نهار الاثنين 23 سبتمبر الماضى، أُعلن عن خطوةٍ متقدمة، وإن لم تكن نهائية، فى علاج السرطان بجزيئات الذهب النانومترية، وكان هذا النوع من العلاج قد طوره العالِم المصرى الأمريكى مصطفى السيد، الذى يُعدُّ من أفضل علماء الكيمياء فى العالم، وقد جاء إلى مصر ليقدم خبرته الثمينة دون مقابل، فرأس الفريق البحثى المصرى بتفانٍ وتواضُع عظيمين، وهى قصة وفاء نقية لمصرىٍّ صادق، تجاه وطنه، وزوجته الراحلة بمرض السرطان، والإنسانية كلها. قصة تهفو للسرد، وإن ليس الآن، فثمة فى قلب قصتنا قصة أود لو أحكيها.
قصتنا التى من ذهب وطنى وإنسانى وعلمى، فى قلبها ذهب آخر، ينتمى للذهب الذى نعرفه، لكنه يفترق عنه بشكل يبعث على الدهشة، ويُشكِّل أمثولة وحكمة لا تقفان عند حدود العِلم، بل تتجاوزانه إلى دوائر البشر، الأفراد، والجماعات، والمجتمعات، والدول. هذا هو الدرب الذى سأمضى عليه فى هذه المساحة الجديدة، حالما برُقىِّ البناء نقيضا لكل ما يعربد حولنا من شغب الدهماء، وباحثا فى مباهج العلم عن كل ما يدعم الحلم، بمصر جديدة، صاعدة وواعدة، وهى تستطيع، ولابد أن تستطيع، وإلا كان الموات فالموت.
الذهب الجديد فى موضوعنا ينتمى مباشرة إلى الذهب القديم الذى اشتعلت بسببه حروب وتناحرت جماعات وافتُتنت نساء وتغطرس أو استُذل رجال. لكنه لا يمثل مظهر الذهب المعتاد ببريقه الأصفر الخاطف للأبصار والبصائر، ولا بتماسك سبائكه المستعصية على الصدأ والتداعى، فهو قلب الذهب الكامن التواق للحركة والنابذ للسكون والمُتحرِّر من بريق الصفرة المُغوية، ومع ذلك يظل حاملا لاسم الذهب، وإن فى إهاب لم تعرف البشرية سِرَّه إلا حديثا، فهو ذهب نانوى «NANOGOLD» جزيئاته متناهية الصغر مُقاسة بالنانومتر المساوى لواحد من المليون من الملِّيمتر. ولا تكون الدقائق نانوية إذا تجاوزت 100 نانو، وفى حالة الذهب النانوى تقع دقائقه بين 2- 4 نانو، فتكاد لا تتجاوز جزءا من عدة آلاف جزء من قُطر شعرة الإنسان، ولهذا يستحيل رؤيتها بالعين المجردة ولا الميكروسكوبات العادية، لكنها تُرى بالميكروسكوبات الإلكترونية خارقة التكبير.
الذهب النانوى، الذى افتتحت مصر منجما من مناجمه يوم 23 سبتمبر الماضى، ينتمى إلى تقنية بالغة الحداثة والطموح والوعد والترقب تُسمى تقنية النانو NANOTECHNOLOGY، والمدهش أن مصر رغم ضوضاء الغوغاء فى أركانها وزواياها، ورغم استفحال التخلف فيها، لم تتخلف عن الالتحاق بركب هذا العلم الذى اعتبرته دولة كبرى كالولايات المتحدة عام 2000 «تقنية استراتيجية وطنية» مدعومة حكوميا. وهى تقنية تستثمر فيها الدول المتقدمة مليارات الدولارات وتربح من منتجاتها أضعافا، بلغت عام 2008 أكثر من 146 مليار دولار، بينما لا نستثمر نحن فيها هامش هذه البلايين. لكن الأكثر مدعاة للتفاؤل والدهشة أننا نسير كتفا بكتف مع أكثر دول العالم تقدما علميا وتقنيا فى جانب من جوانب علوم وتقنيات النانو، هو «طب النانو» NANO MEDICINE، وتحديدا علاج السرطان بالذهب النانوى.
لن يمكننا تقدير المأثرة البازغة لدينا فى هذا الواقع المضطرب إلا بفهم معقول لماهية المواد المستخدمة فى تقنية النانو واستخلاص سر أسرارها. وكلمة «نانو» مشتقة من كلمة «نانوس» اليونانية القديمة التى تعنى «قزم»، استخدمها لأول مرة فى صك تعبير «نانو تكنولوجى» عام 1979 العالِم اليابانى «نوريو تانيجوشى»، وهذا لا يعنى أن هذه التقنية بدأت معه، فهى موجودة فى الطبيعة منذ الأزل، يُكوِّن بها المحار حبات اللؤلؤ، وتصنع بها أوراق الشجر طاقة نمائها وحلاوة الثمار، وتاريخيا استخدمها قدماء المصريين فى صناعة الحبر الأسود المقاوم للزمن، كما اكتُشفت فى نصال السيوف الدمشقية التى كانت تقطع السيوف وتشطر الحجر، ووظفها الرومان فى تشكيل كؤوس يتغير لونها مع الضوء. لكن هذه كلها كانت نتاج تراكم الخبرات والصدفة، دون وعى دقيق بماهية تكوُّنها، وهذا مما لا يقنع به العلم.
عام 1867 تنبأ عالِم الفيزياء البريطانى جيمس ماكسويل بظهور خواص خارقة لجزيئات المادة عند تصغيرها تصغيراً فائقاً، فسُمِّى الواحد من هذه الجزيئات المُرتَقبة: «عفريت ماكسويل»، وقد ظهرت هذه العفاريت فى المُختبرات البحثية بعد قرابة القرن من تلك النبوءة، عند التوصل إلى سر أسرار تحضيرها، وقد كان بسيطا غاية البساطة، فجزىء المادة عندما يتم تصغيره الفائق، فى محاليل كيميائية خاصة، أو بأشعة الليزر، يحتشد الجزء الأكبر من الذرات على سطحه فتزيد حبيبية هذا السطح كثيرا، ما يعنى زيادة مساحته، وبما أن سطوح الجزيئات هى التى تحدد فاعلية المادة كيميائيا، إذن تكون الجزيئات فائقة التصغير فائقة الفاعلية إلى درجة «العفرتة»، التى تظهر معها صفات مختلفة كثيرا عن مادتها الأم. وبالمناسبة، كلمة عفريت التى نُقلت عن العربية بصورتها إلى الإنجليزية (afrit) جذرها (عفَّر)، أى جرى فأثار خلفه زوبعة من تراب لا يدركها ملاحقوه، فهو «لا يُشق له غبار»!
الذهب النانوى، هذا العفريت الطيب الواعد (مع التحذير من فرط عفرتته أو تفريطه) يتغيَّر لونه من الأحمر إلى الأزرق تبعا لحجم جزيئاته، وعلى خلاف الذهب العادى الساكن الخامل تكون منمنماته فائقة النشاط الكيميائى والمغناطيسى فتفعل الأعاجيب، ومثلها تفعل كل الجزيئات النانوية من المواد الأخرى. ولو نظرنا إلى بعض تطبيقات التقانة النانوية، لاكتشفنا أى عفاريت حقيقية يسخرها العلم الحديث، فمن المواد النانوية تُصنع أجنحة طائرات أخف من القديمة 200 مرة، وأقوى 100 مرة، ومغناطيسات قدرتها 100 ضعف المغناطيسات القديمة، وخلايا شمسية فى شكل دهانات ورقائق بلاستيكية بقدرات توليد مُضاعَفة للكهرباء وبأفق لا محدود من التطبيقات المُيسَّرة. ووصلت الأمور بهذه العفاريت إلى حد إنتاج ملابس لا تتوسخ، وجوارب لا تتكوَّن لها رائحة، وقنابل وصواريخ بلا متفجرات! بل إن هناك تجارب على مواد لإخفاء الأفراد والمعدات تنذر بجيوش لا مرئية!
هذه القصة أرى لها ظلالا من المعنى على أرض واقعنا ولحظتنا المُعاشة، ولو شاهدنا فيديو لقطعة ذهب مغمورة فى سائل شفاف مع تسليط الليزر عليها، لرأينا كيف تتلاشى فيما يتصاعد منها لون أحمر أرجوانى يدل على تحرير الجزيئات النانوية فائقة النشاط من سجنها الخانق، فالانعتاق يؤدى حتما إلى الانطلاق. وانعتاق الإنسان من أسر سبائك وأسياخ وكتل الأيديولوجيات والتعصبات والعصبيات والعصابات، والدول الصغيرة والفقيرة من ربقة الدول الكبرى، والشعوب من ضلالات كيانات عابرة للأقطار وساحقة للأوطان، كالإمبراطورية أو السلطنة أو الخلافة. كلها انعتاقات تؤدى إلى انطلاقات خلَّاقة كما كنز الذهب النانوى، تشفى من أورام وأوهام وإجرام، تهدد كلها حياتنا، ولابد أن تتوقف.
شاهد الفيديو