مع كتاب محمد عفيفى الأخير: « ترانيم فى ظل تمارا». وحتى أصدقاؤه المقربون من شلة الحرافيش، وحتى نجيب محفوظ نفسه لم يعلم بهذا الكتاب إلا بعد وفاته.
هذا الكتاب وثيقة إنسانية نادرة. نتعرف فيها على تجربة إنسان وديع، برقة محمد عفيفى، فى لحظاته الأخيرة وهو يعرف أنه ميت حتماً بسبب سرطان الحنجرة. من حقنا أن نتوقع أن هذا الكتاب يمتلئ بمرارة شديدة وحزن كبير. عجوز يعلم أنه عجوز. وذلك الجرح النازف بعد أن فقد ابنه الأكبر فى حرب 67. ابنه الحبيب تحول إلى (فحمة)! والثانى هاجر إلى أمريكا مفضلاً غسل الصحون هناك على اغتيال الأمنيات فى وطن قاسٍ.
المدهش أنه برغم هذه الكوارث لا توجد لمحة سخط واحدة فى الكتاب. بل تسامح عميق مع تقلبات الحياة وتسليم بما كائن ويكون، وامتزاج مع الطبيعة- يوشك أن يكون صوفياً- هناك حيث قضى أيامه الأخيرة تحت ظل تمارا فى صحبة زوجته. تمارا هى شجرة تمرحنة، يتسلل من بين غصونها قروش الضوء الفضية لتسقط فوق فنجان الشاى بنكهة من نور الضحى.
فى تلك الجنة المُصغّرة راح يتأمل الطبيعة بحب الإنسان الموشك على الرحيل. بسلام نفسى عميق راح يرمق أغصان تمارا تتلاصق مع شجرة الليمون، وهذين العصفورين اللذين حطا فوق غصونها يتبادلان الجدل ثم يرحلان إلى حيث لا يدرى. وليمونة صفراء تسقط على رأس القطة الغافية فتنظر حولها فى تساؤل ثم تعاود- مثل أى قط عاقل- النوم. وفراشة بيضاء تلقى بنفسها فى أحضان الزهور. والضفدع الكبير ضفدوع ذى العينين الواسعتين يقفز قفزته الواسعة التى تخفيه بين الأشجار.
تلك هى مفردات كتاب محمد عفيفى الأخير، عاشق يتخفى فى ثياب ساخر، وإنسان أنضجته المحن والكروب، وعلى المقعد المجاور تجلس زوجته الحبيبة أمينة، يقضيان شيخوختهما فى رضا أبيض، أمونة الحلوة، أمونتى وكم من الأسماء دللها بها أيام زواجه الأولى. تجلس جواره وفى عينيها حزن قديم. منعت زرع الزهور فى الحديقة بعد موت ابنها. فى رفق أقنعها أن الإصرار على الحزن فيه شبهة اعتراض صامت على مشيئته سبحانه. حينما وافقت نالت المكافأة! جاءها ابنها فى المنام وقال إنه سعيد بزرع الجنينة!! قال لها مخلصاً: «ربنا يفرحكم دايما»، وضغط برفق على ركبتها فقالت متوجعة بشبهة دلع قديم: «أى، الروماتيزم»
■ ■ ■
وحتى رياح الخماسين لم تفلح أن تنال من سكينته. حينما فتح باب الشرفة قابلته ريح ساخنة حملت معها زهور الياسمين البيضاء التى أسقطتها الرياح. أغلقت أمينة الشرفة، وما هى إلا لحظات إلا وهبت ريح شديدة فتحت الباب ولوثت البساط مرة أخرى بالزهور الضاحكة. تنهد ونهض ليجمعها وفى راحة يده رفعها إلى أنفه لينهل من عطرها المسكر قبل أن يضعها فى جيب الروب. وراح يرمق الأشجار من خلف الزجاج قائلا للصديقات: «معلش يا حلوين، سامحونى النهارده»
ومن وراء ظهره أتاه صوت أمينة تسأله فى دهشة: «وهو الشجر حيسمعك والباب مقفول؟!».
فوجد نفسه يهتز فى ضحك مكتوم واتجه إليها كى يطبع قبلة على تجاعيد خدها، قائلا فى صدق: «باحبك يا أمونة».
■ ■ ■
وهكذا كانت لحظات محمد عفيفى الأخيرة. مات وهو يحمل فى فؤاده حباً صادقاً لكل مخلوقات الأرض واستسلاماً راضياً لما تأتى به المقادير.
aymanguindy@yahoo.com