البعض تراوده أحلام الثراء بلا جهد، مثل أن يرث ثروة مفاجئة أو يكسب فى اليانصيب. والبعض ينظر لهذا النوع من الأحلام نظرة عملية، ويرددون المثل المشهور أن الحدأة لا ترمى الكتاكيت. والبعض الآخر ينظر إلى الأمر نظرة أخلاقية فيشعر بالاحتقار لمن يسعون فى هذا الاتجاه. لكن بالنسبة للذى حدث مع الدكتور «إسماعيل»، والأمانى التى راودت البعض، فإنك لا تستطيع إلا أن تلتمس لهم العذر، خصوصا عندما تعرف القصة كاملة.
عرفته منذ عشر سنوات فى مستشفى كنت أعمل به بالخليج. هو فى الستين من عمره، قليل الجهد، وقليل الاعتماد على نفسه أيضا، إذ كان وراءه جيش من اللاهثين خلفه، يتعهدون أمانيه قبل أن يعرف هو نفسه أنها أمانيه!، ويسعون إلى تحقيقها.
والسبب لم يكن حلاوة طبعه برغم أنه لطيف المعشر فعلا. ولا صحته المتداعية بدليل أن هذه الخدمات لم تكن تُؤدى إلى كهل آخر. وإنما لأنه كان مقطوعا من شجرة. لا ابن ولا زوجة ولا قريب. ولما كان يعمل فى البلد الخليجى منذ ثلاثين عاما على الأقل، ولما كان إلى البخل أقرب، فقد تراكمت لديه ثروة طائلة، كانت مثار تعليقات عديدة من زملائه، الذين كانوا يتنهدون ويتحسرون على حظوظهم الشحيحة بالمقارنة بهذا الكهل الثرى، الذى لا ولد ولا زوجة، ولا يصنع بالمال شيئا باستثناء متعة تكديسه!
وكان يحلو له أن يحكى نوادره عن بخله دون خجل من ذلك، وكأنه مغلوب على أمره!، ثم يتنهد ويقلب كفيه قائلا: «أرزاق! إنما أدّخره لصاحب النصيب!».
وصاحب النصيب هذا كان من الممكن أن يكون واحدا فينا. والحقيقة أن كلنا فكرنا فى ذلك دون أن نصارح حتى أنفسنا. قبيل النوم تأتى أحلام اليقظة! ماذا لو اكتشف الواحد فينا عند وفاة الدكتور إسماعيل - بعد الشر طبعا - أنه أوصى له بماله كله! وقد كان لهذا الظن ما يبرره، فلطالما لمّح بهذا كلما تقبل الخدمات من المحيطين به، يستقبلها مؤدى الخدمة كالظامئ يُسقى الماء البارد.
وهكذا صار الدكتور إسماعيل ملكاً متوجاً فى المستشفى. الممرضات تبارين فى إهدائه أصنافا من الطعام الشهى الثرى باللحوم! والأطباء الذين ترافقهم زوجاتهم يقيمون له المآدب، والعزّاب منهم أو الذين يقيمون وحدهم يتطوعون بتوصيله بسياراتهم متى شاء وأينما شاء.
ليس معنى هذا أن أحدا تمنى له الموت، أو تحدث صراحة عن أطماعه. كانت أشبه بمؤامرة مشتركة لا يفشى سرها أحد، حتى جاء اليوم الذى مات فيه الدكتور إسماعيل فعلا، فاضطربت أفئدتنا وارتبكت حساباتنا وقد حانت لحظة الحقيقة. هل فعلها الدكتور إسماعيل فعلا؟ ولمن؟
والذى حدث بعدها أمرٌ لم يتوقع أحد حدوثه ولا فى الأحلام. الدكتور إسماعيل المقطوع من شجرة، كما كان يقول!، تبين أن له ابنا وزوج ابنة وأخا شقيقا، جاءوا كلهم لتسلم جثمانه واستكمال الإجراءات. وتجمدنا فى أماكننا وقد شرعنا نستعيد الذكريات! تظاهره بالضعف! حديثه المتكرر أنه مقطوع من شجرة! إيحاءاته المتكررة بالوصية المنتظرة! أطباق الخضار المكدسة باللحم ومشاوير التوصيل بالسيارات.. إذن، فقد ظل يستغفلنا على مدى أعوام!
وفغرنا أفواهنا فى ذهول وقد أدركنا حجم (المقلب) الذى شربناه، ثم انفجرنا فى الضحك حينما قالها أحدنا فى تلقائية وبلهجة مُنغّمة: «يا ابن الكلب!».