يقول جمال حمدان صاحب «مصر: عبقرية المكان»: «سيناء قدس أقداس مصر، 61 ألف كيلومتر مربع، أو نحو 3 أمثال مساحة الدلتا».
عاشق الجغرافيا يجسد المكان، قبل أن تحتضن كل تفاصيل ومعانى أيام العبور. يكاد يصور عرق الرجال وملامح تصميمهم فى سفره الرائع «6 أكتوبر- فى الاستراتيجية العالمية»، «ليس الذى بيننا وبينهم أربع حروب، بيننا حرب طويلة واحدة بها أربع معارك حتى الآن! حرب تدور على المستوى السياسى والعسكرى والحضارى.
(العامل البشرى) أهم من العوامل الأخرى، من الزمن والطبيعة والتكنولوجيا، حقق العرب نصرهم بفضل العامل البشرى أساساً، كماً وكيفاً، سيطروا على التكنولوجيا الحديثة أولاً، كما سخروا عامل الوقت لصالحهم، العالم كله متفق الآن على أن الزمن لم يعد يعمل لصالح إسرائيل، إنه أصبح يحارب فى صف العرب. وواجبنا ألا نسمح بأى تغيير فى هذا الاتجاه، وأن نضاعف من تسخيره لصالح قضيتنا ومصيرنا، علينا أن نتم ما بدأناه».
الكتاب حشد رائع من المعارف والعشق والبصيرة والعواطف، امتاز بهذا المزيج عمل وحياة هذا الراحل العظيم الذى لا تندمل فجيعتنا فى غيابه المفاجئ الغامض.
جمال حمدان: مواليد قرية ناى - قليوبية «4 فبراير 1928 - 27 إبريل 1993» الدكتوراه من جامعة ريدنج موضوعها «سكان وسط الدلتا قديماً وحديثاً» حصل عليها 1953. استقال من جامعة القاهرة 1963 بعد معاناة من غباء وأحقاد وبيروقراطية أحاطت به. عاش متصوفاً فقيراً متفرغاً للعمل الجغرافى والتاريخى السياسى الخلاق بعيداً عن الأضواء والمقابلات فى شقة متواضعة فى الدقى. استطاع الصديق الرائع الراحل مصطفى نبيل، رئيس تحرير مجلة الهلال فى ذلك الوقت، أن يقتحم عليه وحدته بصعوبة لكى ينشر أحياناً فى الهلال. واستطاع أيضاً أن يرتب لقاء أو اثنين تاريخيين بين جمال حمدان وحسنين هيكل. الصياغة الأولى لـ«شخصية مصر» تمت فى 1967، ثم الصياغة النهائية فى أربعة أجزاء 1981 إلى 1984. قبل النهاية الفاجعة كان للرجل 29 كتاباً و79 بحثاً منشوراً فى الداخل والخارج. يكرر جمال حمدان: «إن ما تحتاجه مصر هو ثورة نفسية! بمعنى ثورة على نفسها أولاً، وعلى نفسيتها ثانياً أى تغير جذرى، العقلية والمثل وأيديولوجيا الحياة. عن سيناء يقول بمناسبة «25 إبريل عيد سيناء القومى»: تحتمس الثالث عبر سيناء 17 مرة لا حل بالنسبة لسيناء إلا تعمير شامل، أن تكون مليئة بالبشر، أسمع بن جورين يقول: هدف إسرائيل ليس البقاء فى سيناء ولكن منع مصر من البقاء فيها. كما يقول حمدان إن تقليص مساحة الزراعة: هو مقتل مصر، قاتل مصر، هو الرأسمالية المتوحشة. فى الأصول الإسلامية يتمسك حمدان: العمل والعلم:… عباده. وقف جمال حمدان بشكل معلن ضد كامب دافيد، واتهمها بأنها تقضى على دور مصر العربى. لجمال حمدان كتاب مثير بعنوان: «اليهود أنثروبولجيا» يقول إن لا علاقة تاريخية لهم بأرض فلسطين وإنهم ينتمون إلى إمبراطورية الخرز ما بين بحر قزوين والبحر الأسود، «دعم هذا الرأى الكاتب كوستلر فى كتابه «القبيلة الثالثة عشرة».
فى الساعة 4 بعد الظهر يوم السبت 17 إبريل 93 انفجرت أنبوبة بوتاجاز فى شقة جمال حمدان وأعلنت وفاته، تقرير طبيب شرعى د. يوسف الجندى مازال يثير شكوكاً حول أسباب الوفاة.
يقول الأستاذ هيكل: كأنه كان طائر العنقاء الخرافى، ارتفع عالياً ونشر أجنحته رائعة الألوان، ثم احترق مخلفاً رماداً هو أحجار وأفكار عظيمة تبنى الهرم، «لا أملك نص كلمات الأستاذ، كما احترق الكتاب الذى أهداه له حمدان»، أما أنيس منصور فأمامى كلماته التى قالها عن حمدان، يقول الأستاذ أنيس منصور:
«عاش غريباً، ومات وحيداً، يرحمه الله، مات وحده، كما تموت الشهب، محترقاً فى السماء لا أحد رأه، لا أحد يعرف كيف صرخ ولا كيف بكى، وإنما سقط رماداً أضيف إلى تراب مصر يا أرض مصر، قد مات فيلسوفك، وشاعرك، والشاهد على عبقريتك».
■ ■ ■
بعد أن رأى العدو وفهم، قال دعهم يسعون إلى حتفهم، كان انتصار يونيو قد أعماهم، لم تكن مفاجأة العبور، وتحطيم الخط «الأول والثانى» مفاجأة غدر أو ضربة جبان فى الظهر والظلام. كانت مفاجأة شرعية يقرها الشرف العسكرى «وتحطمت الأسطورة: أحمد بهاء الدين».
أما تشرشل الحفيد فيقول، لقد فوجئ الجنرالات الإسرائيليون وهم غافلون، ويرجع ذلك أساساً إلى ما كانت تشعر به إسرائيل من نشوة انتصارها فى 1967. كذلك فإن إسرائيل لم تكن مستعدة لمواجهة هذا النوع من الحرب الذى خاضه العرب بالأسلحة الجديدة. إسرائيل ظلت تعتمد فى استراتيجيتها على انتصاراتها بالطائرات والمدرعات، فى حين أغفلت المدفعية والمشاة وهما السلاحان اللذان تحملا عنف الهجوم، كانت حرباً شاملة استعمل فيها أحدث الأسلحة مع أسلحة القرون الوسطى، السلالم والحبال والمياه. وعادت مرة أخرى القيمة الحقيقية لبسالة الجندى وشجاعته، ودافعه الحر القوى للحرب والاقتحام.
انتقل إلى البر السينائى 80 ألف جندى بكامل سلاحهم فى 12 موجة متتابعة، وكتبت مجلة تايم: هذا فى حد ذاته نصر عسكرى بكل مقياس، تحطم 80٪ من خطى بارليف، بدأت ملحمة اقتحام وتصادم شرسة رهيبة، ولم يطلع فجر 7 أكتوبر حتى كانت القوات المصرية قد توغلت 8 كم. الأسبوع الأول كان عجز إسرائيلى وإعجاز مصرى، الأسبوع الأول كان أسبوع تأديب للجيش الإسرائيلى: قال دايان: أخطر أسبوع فى حياة إسرائيل. وقال شارون: إننا نرقص على أنغامهم.
كانت الحرب طبعاً على جبهتين «سيناء والجولان» وكان التخطيط والأداء العربى معجزاً فى الأيام الأولى.
لكن إسرائيل قسمت المعركة إلى معركتين «من 6 إلى 16 أكتوبر» حاربت إسرائيل معركة مهزومة بصفة مؤكدة، كانت القوة الإسرائيلية فيها على وشك أن تتحطم نهائياً. المعركة الثانية استمرت عشرة أيام، كانت معركة أمريكية أكثر منها إسرائيلية، معركة التدخل الأمريكى شبه المباشر، نقل إليها فى الميدان شلال من الأسلحة الحديثة البالغة التطور، كانت العملية أشبه بعملية نقل دم لطريح كاد يلفظ أنفاسه.
يدرس الكتاب طبعاً عملية التسلل التليفزيونية، كانت واحدة من معارك الحرب الدعائية التى بدأت لإخفاء الهزيمة، استغاثة جولدا مائير استغاثة غريق، وقامت مظاهرات ضد «دايان» سمته «وزير العار» وقال أليعازر: إن مبدأنا ألا نقول الحقيقة. واستقال شارون احتجاجاً على بدء أى نوع من التفاوض، وكانت ملحمة المقاومة فى السويس هى السبب الحقيقى، أنزلت حرب أكتوبر الحرب من السماء إلى الأرض، واستطاع رجل المشاة أن يواجه الدبابة.
تأكد أن هذه المنطقة عاصمة العالم مرتين، مرة للموقع، ومرة لوجود البترول، الذى كان الرد الموجع على التدخل الأمريكى «تم تخفيض الإنتاج بنسبة حوالى 25٪ وارتفع سعر البرميل من 2 دولار إلى حوالى 14 دولاراً»، انضمت إلى الجامعة العربية موريتانيا والصومال. وانعقد فى الجزائر أول مؤتمر عربى ناجح، بعد أن كان دايان يقول: إن تناقضات الدول العربية سياج أمن يحمى إسرائيل.
■ ■ ■
لم ننتصر على إسرائيل بالضربة القاضية ولكننا انتصرنا بالنقط، وامتلكنا مفتاح الأمل، يقول أحمد بهاء الدين: «هزيمة يونيو لم تجعلنا نركع، ولكن ظل سيفها مسلطاً فوق رؤوسنا، قريباً جداً من أعناقنا.. حرب أكتوبر كسرت هذا السيف، وحطمت القيد».
عن لحظة الإعجاز الأولى: لحظة أن رفع الجندى المصرى العلم على أرض سيناء، قال صلاح عبدالصبور:
تمليناك حين أهل فوق الشاشة البيضاء/ وجهك يلثم العلما
وترفعه يداك/ لكى يحلق فى مدار الشمس/ حر الوجه مقتحما.
6 أكتوبر: فى الاستراتيجية العالمية
د. جمال حمدان، مكتبة الأسرة، هيئة الكتاب، القاهرة