قال لى: قبل رحيله بساعات.. لا تخف يا ولدى على هذا الوطن، فلا موت له.
قلت له: كل شىء مُهلهل، مُهترئ، يهتز ويرتجف ويرتعش، الخوف ينام فى أحضان أبنائى مساءً ويلتف حول ساعديهم نهاراً.
قال: يا ولدى أنا قادم من زمن غير زمنك، رحِم الوطن ما زالت بكراً، مولود من رحمه كل يوم، يُصاب بالحمى ولا يموت، الموت لا يلتفت لهذا الوطن، يتحاشاه، ويتجنبه ويخاف منه ويخشاه، تُكشر الأم عن أنيابها حين يمر الموت بجوارها ليلتقط فراخها، فيرتعد ويهتز ويغادر مكانها ويتركها وصغارها فى عشها المهلهل تخترقه أشعة الشمس الحارقة ظهرا، وتعصف بجنباته عواصف الرمال مساءً، ولا تموت وتموت بعض فراخها، لا تخف فهى حُبلى دائما ولن ينضب معينها، فما زالت يا ولدى بكارتها طاهرة ناصعة لن يفضها جهاد نكاح، ولا اغتصاب ذِمية، وستظل تجفف جسدها من ماء النهر كل صباح وتمشط ضفائر شعرها وصغارها تلهو فوق كتفيها وعلى خاصرها ويلتصقون بجسدها يستدفئون بالماء الندىّ حين يتساقط من شعرها المبلل بماء النهر الدافئ.
قلت: منهكة عيونها، تئن من صدع الألم، وحشرجة الموت أسمعها حين تنام هاربة من صغارها وقت الظهيرة من شدة التعب، أسمعها فى حلمها تجوب جنازات الموتى بلا ميت، وتستقبل عزاء الشهداء وهم يفرون من قبورهم رافضين الموت ظُلما، دموعها دامية حين تفيق من غفوتها، ليتها ما نامت وما حلمت وما تألمت، أسيرةٌ هى الأم تحت سيوف وخناجر الغدر، تمسح دموعها خلسة حين أسألها عن سر وجعها، وتخفيها خلف ابتسامتها الهاربة، لا أعرف كيف تختفى غزارة وبريق دموعها خلف ابتسامتها الشاحبة الباهتة.
يا ولدى: أمك هذه ورثت شقاء السنين.. ورضا البشر.. وحنان أمهات الدنيا.. وحكمة تاريخ طويل يمتد عبر تجاعيد وشيبة الزمن، أمك نائحة كل الثكالى، وأرملة كل اليتامى، أمك دخلت كل القبور تُكفن من مات من أبنائها وتلقّنهم شهادة اللقاء، وتنتظر ملائكة السؤال تُجيب عنهم إجابات حفظتها من سنى الموت وطول الانتظار وعدد موتاها، فنبيّهم محمد وإلههم واحد وقبلتهم واحدة، تبكى للملائكة أن رفقا بهم، كنف الله أحنّ ورعاية الله أولى وودائع الله آمنة لديه، أمك تحمل مريضها، وصحيحها، وسقيمها، وتعبر خرائط الدنيا، يموت من يموت، وتشد رحال من يرحل، وتداوى من يمرض وتداعب وتلاعب من يلعب، وتسهر ليلاً تكتب قصيدة الحب، وتقف نهاراً على باب منزلها تنتظر مقاتلها حين يعود لوداع جديد، وتعد أكواب الشاى لكل السهرانين من أبنائها فى الطرقات وفى المساجد والكنائس، أمك مات عنها كل رجالها وشعرها ما زال أسود لم تخطه ريشة الشيب أو الهرم بعد.
يا أبى: إن الأمهات لا يُرهقن، لكننا أرهقنا.. وشابت شعيرات الرأس من هرم ومن سقم.
يا ولدى: عظامها تكسر خناجرهم.. وضفائرها المجدولة تلتف حول خاصرها تمنع اغتصابها، وقامتها العالية الشاهقة لا تطولها سيوف النطاعة والندالة، يا ولدى أمك حطت رحاها على صدر كل المعتدين وجلست تعزف لحن خلودها، أمك ما زالت تداعب بأناملها شعيرات صغارها وتحكى لهم حين يخلدون إلى النوم أن الفارس قادم مع شروق الشمس وابنها الغريب عائد من حضن الماضى وسجون فتاوى القهر والعجز وميتها مبعوث ليوم معلوم يُعيد إلى روحها لحظة اللقاء، ومريضها سيشرب ترياق الصحة والعافية، وخاطرها المكسور قائم يعتدل فى مشيته، أمك ما زالت تحتفظ بتاج عُرسها، وما زالت عيونها العاجزة ترى ليلا كما ترى نهاراً، عاشقة أمك الألم وراعية أمك تراب قبور أبنائها وشجيرات الصبار والأشواك، وتشم نسائم المسك فيها، أمك ما زالت تهتف وتنشد وسط المداحين والمنشدين والذاكرين وتتمايل حبا لرسولها، تباركها بركة أهل بيته، وتسقيها زينب، أخت الحسين، ونفيسة العلوم من مجرى عيونها وأفئدة وقلوب العاشقين الذاكرين؛ من يقف وسط حب الأحبة لا يموت.
خذوا جهادكم بعيدا.. واتركوا الوطن والأم وفراخها.