مجرد بضعة أسطر عابرة نشرت في إغلب لجرائد اليومية، لم يتوقف عندها المجتمع المطحون في الأزمات التي تصنعها جماعة الأخوان عمدا، المشغول بدفع تهمة الانقلاب العسكري عن نفسه أمام الخارج ويقسم بأغلظ الإيمان أن ما حدث في ٣٠ يونيو إرادة شعبية، الغارق حتى أذنيه في البحث عن خرم إبرة يمرره من النفق المحشور فيه، ولم ينتبه أن السطور القليلة تصرخ كالرعد بأن هذا المجتمع لا مستقبل له مهما حاول أو أراد، وأن اضطرابات الأخوان أو مؤامرات الخارج أو أزمته العامة لا شئ بالمقارنة بما تعنيه هذه السطور من مخاطر داهمة على أمننا القومي ووجودنا ذاته!
العبارة الانشطارية المنفجرة في جسد مصر مكونة من عشر كلمات فقط هي: أن مصر حلت في المرتبة الأخيرة بين الدول في جودة التعليم الأساسي!!
وهي عبارة لا تفسر فحسب أسباب هذا القدر المخيف من مستنقع التخلف الذي نعيش فيه، وإنما تسحب منا كل رصيد ممكن للهروب منه إلى أرض التقدم والحضارة التي تبعد عنا مليون فرسخ ونظن أنها على بعد فركة كعب!
لم يعد مجديا الآن أن نحاسب الماضي العفن، أو ننصب المشانق للمتهم الخائن، فلا المحاسبة تصلح ما فسد ولا الشنق يعيد ما ضاع، قد ندرس الأسباب بعمق حتى لا نسقط مرة ثانية في هذه الهوة السحيقة، لكن علينا وبأسرع خطوات ممكنة أن نبحث عن الروافع القادرة على جر مؤسسة التعليم من هذه القاع، وهي عملية أكثر أهمية من الدستور، مع اعترافي الكامل وتسليمي بأن الدستور هو " حجر الزاوية" في بناء النظام العام لمصر الحديثة، وأيضاً من انتخاب رئيس جمهورية وبرلمان جديد، مع يقيني أن هذه الانتخابات هي " فصل الختام " في الصراع مع الأخوان وطريقنا إلى الاستقرار الجالب للأمن والعمل والاستثمار.. الخ.
والتعليم ليس شهادة من مدرسة عليا أو جامعة، ولا هو فك الخط ومعرفة القراءة والكتابة والحساب، التعليم حالة عقلية، طرق في التفكير والتدبير والاستقراء، التعليم ليس معلومات وامتحانات وإنما إسلوب معيشة وتعامل وقواعد حاكمة لتصرفات الإنسان فرديا وجماعية، أي مع نفسه ومع الأخرين سواء كان الأخرون جماعة أو مؤسسة، وقد يكون المرء حاصلا على درجة الدكتوراه لكنه في الواقع أميُ يجهل حروف الأبجدية لفك طلاسم قيم العمل والزمالة والحب والصداقة والجيرة ..والسير في الشوارع على القدمين أو في سيارة!
ولو ضربنا بالدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية السابق مثلا سنجده حاصلا على الدكتوراه في الهندسة، ولكنه ساقط ابتدائية في التفكير العلمي المنظم، صحيح أن ارتباطه بالجماعة كان سببا خطيرا في فشله الذريع، لكن انضمامه للجماعة نفسها هو جزء من الخروج على التفكير العلمي المنظم.
واسمحوا لي أن أقول لكم ان عضوية جماعة الأخوان إلى منتصف السبعينيات من القرن العشرين لم تكن تتجاوز عشرين أو ثلاثين ألفا، وهو رقم هزيل بالمقارنة مع عدد سكان مصر، بل أن نسبة المتعلمين الذين انضموا إلى الجماعة في الثلاثين سنة الأولي من نشأتها كان محدودا للغاية، إذ كانت الغالبية لحرفيين وأنصاف متعلمين، وإذا راجعنا إلى المؤسسين الأوائل في العشرينيات من القرن الماضي، سنتأكد من هذه الحقيقة، ومع تدهور التعليم وجدت الجماعة بيئة خصبة للتجنيد، وجلب أعضاء جدد بالمئات شهريا، وكلما زاد الانهيار زاد أعضاء الجماعة، وتكاثر السلفيون وأصحاب التيارات الدينية، فالأفكار تنتقل إليهم بالتسليم واليقين وليس بالمراجعة والنقد والتمحيص.. والتعليم مصر يعزز الحفظ والتلقين دون الإبداع والابتكار والتفكير!
وقد يفسر انهيار التعليم جانبا شديد الأهمية من ذيوع التفكير الغيبي وصعود التيار الديني، لكنه ليس كل الأسباب، فالظلم والغبن الواقعان على الفئات الأقل دخلا والفقراء وسكان العشوائيات هو أيضاً سببا رئيسيا.
وبالمناسبة الإسلام لا علاقة له بما يعتقد أصحاب التيارات الدينية من أفكار شائعة، فهو دين عقل ومعرفة وتفكير علمي منظم.
باختصار الفقر وفساد التعليم هما " البيئة الحاضنة" للعنف والجهل والتخلف بكل أشكاله!
وقد يكون فساد التعليم عنصرا فاعلا في عدم تحقيق الثورة المصرية في ٢٥ يناير خطوات مهمة في إنقاذ المجتمع، فسقطت الدولة بسهولة في براثن الأخوان والفوضى معا، ومازالت تعاني من تبعات هذا السقوط حتى بعد اختفاء الأخوان من السلطة.
باختصار عندنا نظام تعليم ينتج مواطنا رديئا أو متوسطا في الغالب، ودون نسفه وإعادة بنائه في إسرع وقت ممكن لا معنى لثورة ولا مستقبل لنا.
فهل تسمع الحكومة المؤقتة ولا تنتظر، وليكن التعليم هو أول خطوة في الإصلاح؟!
وقد تسألوا الحكومة: كيف ومن أين التمويل؟!
الإجابة في الأسبوع القادم.
نبيل عمر