عندما جلس الجنود المصريون الكسالى فى ذلك الصباح البعيد على ضفة قناة السويس فى استرخاء، بعضهم «يبلبط» فى مياه القناة وبعضهم يلعب كرة القدم، لم يخطر ببال الجندى الإسرائيلى الذى جلس على الضفة الأخرى يتفرج أن نهايته قد حلت، وأنه، وفى خلال ساعتين، سوف يرى رعبا لم يكن ليتخيله فى أسوأ كوابيسه. قبل ذلك بفترة كان وزير دفاعهم موشى ديان قد أعلن أنه سيجلس على ضفة القناة فى الناحية المقابلة وبجانبه تليفون فى انتظار مكالمة السادات ليملى عليه شروط الاستسلام، لكنه لم يكن يتخيل أن تلك المكالمة لن تأتيه أبدا، وبأن الرد لن يكون عبر التليفون، ولكن بقارعة تهبط على أم رأسه هو وقواته وجيشه وطيرانه وخطوط دفاعه المنيعة، قارعة بتوقيع القوات المسلحة المصرية!
لم يكن ليتخيل، ولا كل العالم، أنه وخلال ساعات قليلة، مجرد ساعات، سوف تلطم وتولول رئيسة وزرائه المغرورة جولدا مائير طلبا للنجدة وهى تقول «أنقذوا إسرائيل!!». انبهر العالم كله ووقف مشدوها يتفرج على جيش مصر وهو يعمل لينتقم لشرفه شر انتقام بقسوة وضراوة، منفذا عملية عسكرية عبقرية غير مسبوقة فى تاريخ الجيوش الذى عرفه البشر. وقف العالم يتفرج على أحفاد صلاح الدين وسيف الدين وهم يعبرون مع قائدهم البطل سعد الدين، يواجهون مدرعات فائقة التسليح بصاروخ «آر بى جى» وصاروخ صغير يدعى «مالوتكا» يحطمون به عشرات ومئات الدبابات ويفنون به ألوية مدرعة كاملة فى ظرف دقائق. وكيف أن ألوية الدبابات المصرية خاضت أشرس وأعنف معارك الدبابات فى التاريخ فاقت فى حجمها معارك الحرب العالمية الثانية! قبل ذلك بساعات فقط كانت الصورة مختلفة تماما، أعلنت القوات المسلحة فى جريدة «الأهرام» عن فتح باب إجازات الحج والعمرة لضباط القوات المسلحة، وقام بعضهم بها فعلا إمعانا فى التمويه، وعندما قرر رئيس شركة «مصر للطيران» وقف كل الرحلات من وإلى مطار القاهرة استعدادا للحرب، جاءه على الفور تليفون القيادة يأمره بالاستمرار فى الرحلات بصورتها الطبيعية لكى لا ينكشف الأمر. مارست القوات المسلحة على الأرض ومع السلطة السياسية المصرية عملية تمويه وتعمية معقدة وطويلة وفائقة الحذر والذكاء، عملية عبقرية لا تقل روعة عن الحرب ذاتها، إلى أن نجحت فى تنويم الموساد مغناطيسيا ومعه كل إسرائيل والـ«سى آى إيه» ومعها كل الإدارة الأمريكية وكل العالم، ليصل الأمر بعد الحرب إلى تبادل اتهامات مثير للسخرية ما بين إسرائيل وأمريكا، تقول إسرائيل إن مصر خدعت الـ«سى آى إيه» ذاتها، ويرد هنرى كيسنجر قائلا: «ما دمنا قد رأينا الموساد مطمئنا فما الذى كان يدعونا نحن إلى القلق؟!».
وبصرف النظر عن حالة الحرب التى كانت معلنة أصلا منذ سنوات، فقد عوضت المفاجأة جانبا كبيرا من الفارق فى الإمكانات والتسليح ما بين الجيشين، فالحكاية لم تكن حكاية تسليح، ولكنها كانت حكاية رجال، وليس أى رجال، وعندما نتكلم عن فرق الرجال، فمن الطبيعى أن نتفوق، بل ونكتسح، وهذا ما حدث بالضبط فى حرب أكتوبر عام 1973.
السؤال الذى أطرحه الآن على لجنة الخمسين، وعلى السيد عمرو موسى وأدعوه وإياهم إلى التفكير معى، هل كان سيصلح الأمر إذا ما تطلب الحال فى ذلك الوقت إعلان حالة الحرب أولا ثم موافقة أغلبية ثلثى مجلس الشعب حسبما ورد بالمسودة؟ هل هذا ملائم؟ أين يقع ذلك من ضرورات استغلال عنصر المفاجأة الحاسم القاصم؟ وما حجم الأسرار التى سيضطر الجيش ومخابراته للكشف عنها توصلا لإقناع ثلثى مجلس الشعب فى مناقشة مفتوحة بالموافقة على إعلان الحرب؟ هل فعلت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل ذلك عندما اعتدت علينا فى عام 1956؟ بل هل فعلت إسرائيل ذلك فى عام 1967 عندما وجهت ضربتها الجوية فحصلت أولا على موافقة ثلثى الكنيست؟ ما يقوله التاريخ إن رئيس وزراء إسرائيل فى ذلك الوقت ليفى أشكول كان مترددا ضعيفا لا يريد دخول حرب لولا ضغط عتاة الصقور فى إسرائيل وعلى رأسهم موشى ديان وعزرا وايزمان، وماذا إذا تعرضت مصر -لا قدر الله- لهجوم مباغت أو احتاجت إلى تنفيذ عملية عسكرية محدودة أو ضربة جوية وقائية مباغتة تستلزم قرارا سريعا فى إطار من السرية والكتمان؟ هل تذهب لمجلس الشعب أولا؟ إن ترف العرض على كامل البرلمان واستلزام موافقة ثلثيه هو أمر لا تقدر عليه سوى الدول العظمى ذات القوة الكاسحة، التى لا يهمها عنصر المفاجأة فى شىء بسبب تفوق القوة الكبير، ورغم ذلك فكثيرا ما تحايلت الولايات المتحدة الأمريكية على هذا الشرط ونفذت عمليات عسكرية عن طريق الـ«سى آى إيه» دون لجوء إلى الكونجرس إلا فى «الحروب الرسمية»، ولا أظن أن هذا الحال يلائم مصر ولا حتى بلغة الجغرافيا التى تخدم أمريكا ولا تخدم دولنا المحشور بعضها مع بعض بحدود مشتركة طويلة.
نعم، أعلم الفرق ما بين إعلان الحرب وما بين التاريخ الفعلى لبدء العمليات العسكرية، ولكننى من أنصار أن يأتى إعلان الحرب بعد إطلاق الرصاصة الأولى عادة وليس قبل ذلك أبدا وإلا فنحن معرضون لخسارة الكثير.
إننى أدعو لجنة الخمسين إلى تعديل نص المسودة الذى يشترط موافقة أغلبية ثلثى البرلمان شرطا لإعلان حالة الحرب، ليكون قاصرا فقط على حالة إرسال قواتنا للخارج، أما عدا ذلك فيجب تشكيل لجنة مصغرة للأمن القومى من بين أعضاء مجلس النواب تتولى هى الموافقة على القرار حفاظا على السرية وعنصر المفاجأة واليد الطولى لمصر، وليتولى البرلمان المحاسبة على القرار وتشكيل لجان التحقيق والتقصى فى بحث مطول بعد انتهاء العمليات العسكرية وليس قبل ذلك، عندما يكون الخطر قد زال والنصر قد تحقق. أتمنى أن أسمع رأيا فى ذلك من الفريق عبد الفتاح السيسى، أعطوا مصر زمام المبادأة والمرونة الكافية ولا تقيدوها هكذا. كل سنة وجيشنا وبلدنا بألف خير. اقرؤوا معى الفاتحة على شهداء جيشنا وشهداء ثورتنا، ولا تنسوا أن تترحموا على روح صاحب القرار، وشقيقه وكان من أوائل شهداء الحرب، وعلى روح الوطنى العبقرى الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، وكل سنة وأنت طيبة وبألف خير يا بلدى.