أين اختفت البهجة التى غمرت البلاد منذ 3 يوليو ولمدة أسابيع حتى ما بعد 26 يوليو؟! كان الناس يتطلعون آنذاك إلى المستقبل بآمال عظيمة لم يفتُّ فيها العنف الذى ضرب البلاد هنا وهناك، وكان إيمانهم عميقا بقدرتهم على تجاوز كل المخاطر بما فيها الإرهاب المنظم والتأييد الذى كان يحظى به من قوى خارجية عظمى، وكانوا فى لهفة من أمرهم ليعوِّضوا ما فاتهم على يد مبارك، وكانوا يصرُّون على محو آثار العام الكبيس الذى حكم فيه الإخوان، ودفعت الجماهير فى المقابل ضريبة الدم واستجابوا لكل تدابير الأمن وقبلوا فرض حالة الطوارئ وامتثلوا لحظر التجوال، ورضوا أن يؤجلوا مصالحهم إلى أن تستقر الأوضاع.
وكان غريبا أنه بعد أن نجحت الثورة فى تعديل مسارها وأطاحت بحكم الإخوان أن تتعثر المسيرة دون أسباب واضحة، بل وتتحرك فى وجهة مريبة، وصار الحكام الجدد يعرضون نظرياتهم الخاصة ورؤاهم فيما ينبغى أن يكون وكيف، برغم أنهم مؤقتون غير منتخبين جاءوا لتسيير أمور البلاد فى المرحلة الانتقالية ولتهيئة الأوضاع للانتقال إلى بناء مؤسسات الثورة بدستور الثورة وفق مطالب الثورة!
وكان من جرّاء كل هذا أن فَتُرَت همّة الجماهير بسرعة رهيبة وارتد الكثيرون إلى ما كان فى السابق وراحوا يكتفون بالمشاهدة لما يجرى دون حماس، وكأن ثقبا كونيا أسود ابتلع كل الفوران الذى وقع ومعه مشاعر الناس!!
فهل هناك خطة مبرمجة متسلسلة لإحداث هذا الموات؟ أم هو القصور الذاتى لتولى مقاليد الأمور بعض غير الثوريين وبعض من قامت الثورة ضدهم ويكون لهم الغلبة على حسنى النوايا؟
من أعطى لنفسه حق استلاب مطالب الثورة، أو حق تسفيهها، أو حق تأجيل ما جعلته أولويات؟
أوضحت الثورة من يومها الأول عن وجوب وضع دستور جديد، فجاء من أنكر هذا وراح يفرض الاكتفاء بتعديلات دستورية، ولكنها حققت بعض الطلبات الثورية فى لجنة العشرة، ثم عندما صار الأمر فى لجنة الخمسين، إذا بهم يتذكرون مطلب الدستور الجديد ليس تلبية لنداء الثورة ولكن لإلغاء بعض ما أنجزته لجنة العشرة! إنظر فقط إلى ما يخصّ مجلس الشورى الذى طالبت الجماهير بإلغائه بعد أن انكشف عدم جدواه للبلاد واقتصاره على أن يكون مستودعا لتجميع رجال مبارك وإسباغ الحصانة عليهم ليقوموا بدور الحماية المطلوبة للنظام! واستجابت لجنة العشرة ولم تضع مجلس الشورى فى مشروعها، إلا أن لجنة الخمسين، وفى غمار الادعاء بأنها ستضع دستورا جديدا تلبية لمطالب الثورة، تستعيد مجلس الشورى تحت اسم «مجلس الشيوخ»! وكأن تغيير الاسم يغير من الأمر شيئا!!
انظر أيضا إلى المطلب الثورى الأساسى عن معالجة الخلل الرهيب بين الحدين الأقصى والأدنى للأجور، وقد أكّد عدد من خبراء المالية والاقتصاد أن الأمر لن يكلف الدولة شيئا، لأن الزيادة فى الحد الأدنى سوف يجرى تمويلها من الخصومات فى الحد الأقصى، وبرغم هذه البساطة الواضحة، إلا أن المشروع دخل فى مساومات امتدت حتى وصلنا إلى وعد بالتنفيذ بعد أشهر أخرى، ولكن فقط لما كان يُنادى به قبل سنوات، أى أن رفع المعاناة عن الفقراء الذى هو الهدف من المشروع لن يتحقق بعد أن وصلت الأسعار إلى أفلاك رهيبة!
فما الذى يجعل الحكومة تتعنت فى إنجاز مشروع يلبى مطالب الثورة دون أن يلقى عليها عبء العمل على توفير بنود للتمويل؟
لقد كشف السرّ مصدر حكومى، قالت بعض الصحف إنه رفيع المستوى، قال إن السبب هو معارضة عدد من قطاعات الحكومة لتخفيض سقف كبار الموظفين إلى 40 ألف جنيه شهريا! وفاجأ هذا المصدر الجماهير بقوله إن قطاعات البنوك والشركات القابضة وممثلى الحكومة فى الشركات المساهمة يتحصل الواحد منهم على عدة ملايين من الجنيهات سنويا تتمثل فى رواتبهم الشهرية إضافة إلى جزء من أرباح المؤسسات التى يعملون بها، ويصل نصيبهم إلى 5 بالمئة من الأرباح التى تزيد عن المليار جنيه فى بعض الحالات!! وأضاف المصدر بأن إقرار الحد الأقصى للأجر سوف يوِّفر ملايين الجنيهات شهريا لخزانة الدولة!!
ومن الأسئلة المنطقية التى تفرض نفسها: ما هو العلم النادر وما هى الخبرات الفذة التى يُدفع لها الملايين مقابل هذا العمل الجهنمى؟ وبفرض أن هذا الموظف أبى عليه كبرياؤه أن يتقاضى أقل من مرتبه المليونى، وبفرض أنه ترك العمل احتجاجا، فهل هنالك صعوبة فى إيجاد موظف آخر يقوم بالمطلوب بنفس مستوى الأداء مقابل الأجر الجديد بعد التخفيض؟
كان معلوما فى عهد مبارك الذى اخترع هذه المرتبات الخيالية أن هؤلاء الموظفين لا يتقاضون الملايين مقابل أدائهم الوظيفى وإنما لقيامهم بخدمات خاصة للنظام، وليس هناك من يقبل أن يدفع هذه الملايين إلا نظام فى حاجة إلى هذه الخدمات!!