لا تفتح أى صحيفة هذه الأيام، ولا تتطلع إلى أى شاشة إلا وتجد خبراً مكتوباً هنا وتقريراً مذاعاً هناك من الرئيس الأمريكى أوباما الذى لن يحصل على راتبه آخر هذا الشهر!
ولو أنت قرأت التفاصيل فسوف تكتشف أن السبب هو أن مجلس النواب فى الكونجرس الأمريكى، الذى هو برلمان البلاد، يرفض إقرار الميزانية الجديدة لعام 2014، ويربط موافقته عليها بإلغاء برنامج الرعاية الصحية الذى كان أوباما قد طرحه منذ أصبح رئيساً، ولايزال يتمسك به، إيماناً منه بحق مواطنيه فى أن يتلقوا رعاية صحية جيدة.
الكونجرس، كما نعرف، يتكون من مجلسين أحدهما مجلس النواب الذى يسيطر عليه الجمهوريون، أى معارضو أوباما، وهؤلاء هم الذين يضعون له «العقدة فى المنشار»، كما نقول نحن، منذ دخل البيت الأبيض، وثانيهما مجلس الشيوخ، ويسيطر عليه الديمقراطيون أى الحزب الذى ينتمى إليه أوباما.
نحن إذن أمام ما يشبه لعبة عض الأصابع فى الولايات المتحدة بين الرئيس من ناحية، الذى يرفض التنازل عن مشروع الرعاية الصحية، باعتباره مشروعه الأهم كرئيس للدولة، وبين الكونجرس من ناحية أخرى، الذى يريد أن يقايض أوباما، حيث تكون هذه بتلك، أى الموافقة على الميزانية الجديدة فى مقابل إلغاء برنامج الرعاية الصحية إياه!
وفى لعبة عض الأصابع هذه يظل كل طرف من طرفيها فى انتظار أن يصرخ الطرف المنافس ليقول: «آه» أولاً، وبالتالى يكتشف الطرفان أنهما فى سباق يقوم فى أساسه على شىء واحد هو مدى القدرة على التحمل من كليهما!
وإلى أن يتراجع أحدهما ويتنازل ويصرخ متألماً فإن التداعيات التى يراها المتابعون لهذه اللعبة من بعيد تظل عجيبة ومدهشة، وربما تكون جديدة تماماً على بعضنا.. وإلا.. فما معنى أن يقال إن من بين هذه التداعيات أو الأعراض الجانبية أن رئيس أكبر دولة فى العالم لن يقبض راتبه عند آخر أكتوبر، وإن موظفين كثيرين سوف يجدون أنفسهم مضطرين إلى الذهاب فى إجازة دون أجر، وإن مؤسسات وهيئات أمريكية سوف تغلق أبوابها إلى أن تجد الأزمة حلاً، وهو ما حدث بالفعل، أمس، عندما رفع المتحف الوطنى فى «واشنطن» لافتة على بابه تقول إنه مغلق أمام زواره ضمن ما أطلقوا عليه هناك «خطة التعطيل»، إلى أن تكون للأزمة نهاية!
زمان ومنذ ما يقرب من قرنين ونصف القرن، كان الذين وضعوا الدستور الأمريكى قد حرصوا على أن يكون هناك توازن دقيق جداً بين السلطات الثلاث فى الدولة، بحيث لا تجور سلطة على الأخرى، ولا تستأثر واحدة منها بالسلطة دون غيرها، وبحيث يضمن توازن من هذا النوع تسييراً منضبطاً للدولة، وتحقيقاً مثالياً لمصالح المواطنين، وهو ما لا نكاد نجده فى الأزمة المثارة الآن!
وليس لهذا كله من تفسير معقول إلا ما كان تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا فى أثناء الحرب العالمية الثانية، قد قاله، وهو أن الديمقراطية ليست أفضل شىء توصلت إليه أنظمة الحكم المعاصرة كما قد نتصور، وإنما هى أقل ما توصلت إليه هذه الأنظمة سوءاً!