السر كان يوم 2 أكتوبر 1973.. لا 6 أكتوبر 1973. حينما قررت السماء أن تنتصر مصر وجنودها يهتفون: الله أكبر.. الله أكبر.. نعم.. إنه سر أنشره لأول مرة منذ أربعين عاماً.
خلال كتابتى للعمود اليومى بجريدة الجمهورية كنت أميل إلى كتابة شكاوى أو قل مآسى الناس التى تستحق الكتابة.. وبالصدفة المحضة لجأ لى ثلاثة طلبة من جامعة القاهرة متفرقين فى أوقات متفرقة.. لا يعرف أحدهم الآخر.. لكل منهم قصة فقر تدمى القلب.. تصور مثلاً أن طالباً جامعياً يعمل ساعى توصيل طلبات للمنازل عند أكبر محل مشهور جداً فى الدقى متخصص فى بيع الفاكهة والخضار والبقالة بأنواعها.. يعمل بعد الظهر حتى المساء، لأنه فى الصباح عنده محاضرات فى كلية الآداب.. وينام فى المحل فوق أجولة الخيش وصناديق الكرتون!!..
وهناك تحذير من صاحب المحل، وكان رجلاً تقياً ورعاً يحب الخير - التحذير بعدم إضاءة أى أضواء بعد غلق المحل، خشية أن يقتحم البوليس المحل باعتبار وجود لص بداخله!!.. إذا ما لاحظ النور تحت عقب الباب الحديدى!!.. ولما حان موعد الامتحانات.. كان الشاب الفقير الذى كان يتقاضى عشرة جنيهات شهرياً، كانت لها قيمتها فى ذلك الوقت.. كان الشاب يضطر أن يحشر أجولة الخيش وصناديق الكرتون أسفل الباب الضخم ليمنع تسرب الضوء ليذاكر دروسه!! الشاب ضعيف رث الثياب، ولكن عنده عزيمة وإصرار ليكمل مشوار العلم.
■ ■ ■
شاب آخر طالب أيضاً فى كلية الآداب له أقارب من على بعد.. لجأ إليهم.. فما كان من رب البيت، الذى يريد صلة الرحم، وفى الوقت نفسه هناك أكثر من سبب لعدم استضافته فى الشقة الضيقة مع أسرة لها أسرارها وسيدات وبنات محجبات.. لذا استأذن رب البيت صاحب العمارة فى استخدام «بير السلم» بطريقة غريبة!!. باب خشبى متواضع يقفل البير والسقف هو أسفل السلم.. والمكان يتسع لسرير سفرى متواضع ومنضدة!! بواب العمارة الملاصقة وافق بعد أن «أخذ المعلوم» على أن يستعمل الطالب دورة المياه الخاصة به.
الطالب الثالث فى كلية الهندسة.. دموعه الغزيرة منعته من أن يروى شيئاً عن نفسه.. ولكنه جاء ليسألنى أنتم أصحاب الأقلام: ألست أحق من أى طالب آخر بالمدينة الجامعية؟!.. هل المجانية تكفى وأنا على الرصيف!! اكتبوا يرحمكم الله.
■ ■ ■
دفعتنى شخصية الطالب الثالث أن أكتب القصص الثلاث.. وشىء غريب.. قد لا تصدقنى إذا قلت لك إن «هاتف خفى» هو الذى وضع عنوان هذا العمود.. كان عنوان العمود والصحيفة موجودة - هو «إلى قلب أنور السادات»!!.. بعد يومين اتصل بى الأخ فوزى عبدالحافظ، سكرتير خاص السادات، ولى به معرفة بعيدة.. فهو قريب جارى وصديق العمر كمال أبوالمجد الذى تزاملنا معاً فى مدرسة العباسية الابتدائية ثم فؤاد الأول الثانوية ثم كلية الحقوق - جامعة فؤاد الأول.. وكان كمال أبوالمجد أول دفعتنا مايو 1950.
طلب منى فوزى عبدالحافظ أسماء الطلبة الثلاثة، فقد حجبت طبعاً أسماءهم فى العمود وأسماء كلية كل منهم!!.
■ ■ ■
ومضت أيام.
ثم فوجئت بهم الثلاثة معاً.. رغم أنهم جاءونى متفرقين لا يعرف أحدهم الآخر.. المنظر مختلف تماماً.. الملابس جديدة.. ونور ربنا على الوجوه.. والحالة المعنوية والنفسية مختلفة تماماً.
قلت لهم وأكاد أعانقهم وأقبلهم:
- إيه اللى جمع الشامى على المغربى.. عرفتم بعض إزاى؟!
- نحن الثلاثة فى حجرات متجاورة فى المدينة الجامعية!!
اتضح أن الرئيس السادات - شخصياً - بنفسه وكنا فى شهر رمضان.. البداية إفطار فى حجرة الضيوف البعيدة بمنزل السادات بالجيزة.. أفطر معهم السادات.. ثم تعليماته لفوزى عبدالحافظ بتسكينهم فى المدينة الجامعية، وملابس كاملة: ملابس خارجية وداخلية للخروج وللمنزل! وراتب شهرى حتى التخرج!! كل هذا على نفقة السادات الشخصية.. والتنبيه عليهم بعدم الاتصال بأى وسيلة إعلام وعدم نشر أى شىء.
طالب كلية الهندسة استأذن الموظف الذى يعطيه راتبه الشهرى أن يستأذن الأستاذ فوزى عبدالحافظ فى أن يزور مع زميليه كاتب هذه السطور، وسيطلبون هم الثلاثة بإلحاح شديد عدم نشر أى شىء.. وقد كان..
فى مساء اليوم نفسه تلقيت تليفوناً من الأخ فوزى عبدالحافظ يؤكد لى أن الرئيس شخصياً يطلب عدم نشر أى شىء.
- كان هذا يوم 2 أكتوبر 1973.
- بعد أربعة أيام فى 6 أكتوبر 1973 انتصر السادات وانتصرت مصر، بل العرب كلهم.
«…إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم». صدق الله العظيم