قد يكتب الله للواحد منا أن يحج أكثر من مرة، ولكن تظل رحلة الحج الأولى هى أروع وأشجى وأعذب المرات، حيث يسبقها الغموض، وتكتنفها الرهبة، وتخالطها رغبة جارفة فى المعرفة، فى حجى الأول- منذ أكثر من عقد من الزمان- انكمشت فى مقعدى فى قلب الطائرة عندما سمعت صوت المضيفة وهى تعلن أن هناك خمسة ركاب يزيدون عن حمولة الطائرة، وأن قائد الرحلة سيضطر إلى إنزال العدد الزائد من الحجاج، حيث ستحدد لهم الشركة موعداً آخر للسفر!
وتعالت صيحات الركاب بالرفض والتهديد، إلا أننى التزمت الصمت حتى لا يلحظنى أحد، وكأننى مذنب فر هارباً من جريمته ويخاف أن يطلع عليه الناس، وكان مما جرى فى خيالى- وقتها- أن ما يحدث فى الطائرة هو علامة تشير إلى بعض المطرودين من رحمة الله، لذلك انتابنى الهلع أن أكون من هؤلاء، وتمتمت بالدعاء فى وجل، وبعد هنيهة سمعت أصوات الركاب تتصاعد فى ترنيمة واحدة بدعاء التلبية «لبيك اللهم لبيك» فلبيت معهم وقلبى ينتفض، وبعد ساعة تنفست الصعداء عندما أعلنت المضيفة أنه تم حل المشكلة وأن الطائرة على وشك الإقلاع، وعندما هدأ الخاطر وارتاح البال التفت ذات اليمين، فوجدت شاباً وضيئاً يجلس على مقعده ويرتدى ملابس الإحرام وكأنه أحد أولياء الله الصالحين، وعرفت بعد ذلك أنه يدعى «حسين القصبجى»، ووجدتها فرصة لإجراء حوار مع رجل ظننت أنه صاحب خبرة طويلة فى الحج، إلا أننى، ويالعجبى، وجدته يزاملنى فى «المرة الأولى»، فقلت له ضاحكاً: هو إنت منهم؟ خام مثلى! فقال بابتسامة عريضة: أبداً أنا أتفوق عليك بعمرة أديتها فى رمضان قبل الماضى، يعنى عندى سابقة عمرة.
وإذا كان حج «المرة الأولى» هو أروع المرات، فإن رؤية الكعبة فى المرة الأولى هى أشجى المرات، فسرعان ما انتابتنى حالة غريبة من الوجد والشجن، ورغماً عنى انسابت دموعى، رغم أن الجميع يعرفون أننى «عصى الدمع»، فرؤيتك الكعبة فى المرة الأولى تدخلك فى حالة شعورية فريدة من نوعها لا يستطيع أحد أن يصفها مهما أوتى من بيان، وفى الطواف، ورغم شدة الزحام، فإننى لم أشعر بأحد، حتى إن بعض رفقاء الرحلة الذين تعرفت بهم فى الطائرة وفى الحافلة كنت أنظر إليهم وكأننى فى إغفاءة، فنصفى مستيقظ أما النصف الآخر فهو فى عالم مختلف.
وكنت قد تعرفت أنا وحسين القصبجى على مجموعتين من مجموعات رحلتنا، مجموعة يقودها الدكتور محسن سليمان، وهو من كبار الأطباء، ومجموعة يقودها المهندس شريف عفيفى، صاحب إحدى شركات المقاولات، وكلاهما من أصحاب الخبرات العالية فى الحج، وكانت هاتان المجموعتان قد احترفتا الحج مشياً، كما كان يفعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واتفقت أنا والقصبجى على الانضمام للمهندس شريف عفيفى، حيث توجهنا يوم التروية من «مكة» إلى «منى» مشياً على الأقدام، وتعجبت من معرفة شريف عفيفى بدروب ومسالك ندر أن يعرفها أحد، وكنا نصاحبه وكأنه قصاص أثر، ومن صحبتى لهذا الرجل بعد ذلك أيقنت أن الخير يجرى فى هذه الأمة إلى يوم الدين طالما أن فيها مثل هذا الرجل، فهو من الذين يتعبدون لله حبا ووجدا، يسعى فى عبادته إلى جوهر الأشياء ولا يتوقف عند سفاسفها، وعندما وصلنا إلى «منى» توجه بنا قائدنا إلى المخيم الخاص برحلتنا، وتقابلنا هناك مع مجموعة الدكتور محسن وكان المخيم خالياً،
وقد أتيحت لنا فى هذه الخلوة فرصة الانكباب على القرآن الكريم نتلوه معظم الوقت، ثم نتقرب إلى الله بالدعاء فى باقى الأوقات، وكان يوم عرفة من أعظم أيام حياتى، إذ توجهنا مشياً من «منى» إلى «عرفات»، وأثناء المسير وقع أحدنا من الإعياء واقتضى الأمر أن نشير- بعد أن قطعنا نصف الطريق- إلى إحدى السيارات الميكروباص، وركب القصبجى على سقف السيارة هو وآخرون، وتعلقنا أنا وأحد الحجاج، ويدعى محمود- وهو بائع سمك بباب الشعرية- فى مؤخرة الميكروباص من الخارج، ومن شدة التعب لم يستطع محمود التحمل وقال لى: «خذلتنى يدى وسأنزل الآن»، ولكننى لم أرغب فى تركه وحده، فنزلت معه، وكنا ننظر إلى القصبجى وهو يركب فوق الميكروباص نظرة حسد، إذ قلت له بصوت مرتفع: «أيوه يا عم ما إنت ربنا راضى عنك»، فقال متضاحكاً: «هاتحسدونى على إيه دى الشمس هاتكلنى»، هذه بعض ذكريات هاجت فى خاطرى عندما رأيت وفود الحجيج وقد بدأت تتقاطر على مكة، فكاد قلبى ينخلع من مكانه ويذهب معهم، للدرجة التى ظننت فيها من شدة الأشواق أننى لم أذهب إلى الحج على الإطلاق.