على الرغم من انضمام مصر لاتفاقية التجارة الحرة منذ عام 1993، وامتلاكها لجهاز فخم لتشجيع المنافسة ومنع الاحتكار، وفى وقت تباع فيه الطماطم للمستهلك بجنيه واحد والبطاطس والفاصوليا الخضراء والكوسة بخمسة جنيهات وتنخفض فيه أسعار زيوت الطعام والقمح والذرة والبقول والسكر والزبدة عالميا ومحليا تتحدث وزارة التموين عن فرض التسعيرة الجبرية على السلع الغذائية بسبب شائعات أطلقتها طائفة معينة فقدت السلطة أو خطاب كاذب لرجل دين على منبر فى قطر.
ففى الوقت الذى ينبغى فيه لخبراء وزارة التموين أن يعلموا أننا نمر بذروتين من ذروات الطلب على الغذاء وبالتالى ارتفاع أسعاره سنويا، وهى ذروة دخول المدارس ويصاحبها ارتفاع أسعار البيض ومواد البقالة والخضروات ثم، ذروة عيد الأضحى ومصاحبته لارتفاع أسعار اللحوم والأرز، بينما نحن خارجون للتو من الذروة الكبرى لارتفاع أسعار الغذاء، وهى شهر رمضان والذى ترتفع فيه أسعار كل شىء منذ أن تخلت الدولة عن دورها فى ضبط الأسواق وهمشت دور هيئة السلع التموينية، فيما أنشأها عبد الناصر من أجله، ثم تحويل تبعية المجمعات الاستهلاكية من وزارة التموين كجهات خدمية لا تستهدف الربح إلى شركات قابضة ثلاث تستهدف الربح وتحاسب سنويا على الأرباح والخسارة. فدور هيئة السلع التموينية طبقا لقرار إنشائها فى عام 1961 هو تدبير احتياجات البلاد من جميع السلع سواء بالشراء من الأسواق المحلية أو بالاستيراد.
فعندما يحين وقت ذروة الطلب على اللحوم وقبل حلول عيد الأضحى بشهرين تقوم هيئة السلع التموينية باستيراد كميات كبيرة من اللحوم الحية والباردة والمجمدة وتطرحها فى الأسواق تحجيما لأى زيادة متوقعة فى أسواق اللحوم البلدية، والتى لا يزيد اكتفاؤنا الذاتى منها على 40%، ويتكرر الأمر فى حال ارتفاع الزبدة وزيوت الطعام والبقول والسكر، بل حدث أن طلب الرئيس ناصر ومن بعده السادات تضبيط أسعار أسواق الموبيليا فاستوردت «الجُملكا وذهب الصالونات المذهبة»، ولكن هذه الاختصاصات انتزعت منها الآن، وذهبت للشركات القابضة التى ترى أن ارتفاع الأسعار فى صالحها لتحقيق أرباح تفتخر بها أمام جمعيتها العمومية. هذه الأمور تدخل ضمن اختصاصات الدولة فى تشجيع المنافسة ومنع الاحتكار، وبالتالى فما دام هذا الجهاز لم يرصد احتكارا فى السلع الغذائية أدت إلى ارتفاع الأسعار ولم يحول مرتكبيها إلى المساءلة فلا مكان للدولة إذن فى فرض التسعيرة الجبرية إلا إذا رأت أن هذا الجهاز فاقد للأهلية ولا يقوم بعمله، كما أنها هى نفسها لا تقوم بدورها فى تشجيع المنافسة بطرحها لكميات كبيرة من المواد المطلوب تضبيط أسعارها تعمل على انضباط الأسواق أو التفاهم مع الغرفة التجارية المصرية على طرح المزيد من البضائع إلى أسواق التجزئة.
وعلى الرغم من أن عمر الحكومة سبعون يوما، فكان ينبغى ومنذ اليوم الأول لوزير التموين أن يطمئن على مخزون اللحوم فى البلاد حتى لا ترتفع أسعارها قبل العيد، خاصة أن أسعار الأعلاف عالميا فى أقل مستوياتها بما يعنى أن الوزارة تقاعست فيما يشبه المؤامرة عن طرح الكميات المعتادة من اللحوم سنويا، ومنذ الشهر الماضى حتى لا تعطى فرصة لارتفاع اسعار اللحوم، ولكن اللحوم لم تصل ولم يتبق على عيد الأضحى سوى أسبوعين ثم تسأل عن ارتفاع أسعارها؟!
ثم يأتى دور الخضراوات ولا غرابة فى ارتفاع أسعارها فى شهور الصيف لأنه قليل السلع حيث لاتوجد إلا الفاصوليا والكوسة والبامية على خلاف الشتاء متعدد الخضراوات، فإذا علمت وزارة التموين عبر خبرائها أن الفاصوليا لا تجود فى الأشهر عالية الحرارة ولا عالية البرودة وتراجع أسعارها فى شهر أغسطس وبدايات سبتمبر كل عام ستجدها فى أعلى مستوياتها وأسوأ الصفات لأن الحر يحرقها تماما، ومثلها الكوسة التى يتفشى فيها مرض البياض فيقتلها ويشوهها، خاصة مع ارتفاع الرطوبة ولا تعود إلى طبيعتها قبل نهاية سبتمبر والذى يشهد أول ظهور للبازلاء والقلقاس، كما أن المانجو تعانى من ظاهرة «التفويت» أى عام محصول وفير يليه عام بمحصول ضعيف ونادر. فلماذا إذن التسرع بتدخل الدولة والتى يمنعها القانون الدولى للتجارة ويقول البنك الدولى إن تدخل الحكومات فى الأسواق يتسبب فى إحداث «تشوهات للأسعار»، لأنها تخلق سوقا موازية تباع فيها السلع بأسعار مضاعفة أكثر من أسعارها قبل فرض التسعيرة.
الملخص أن الدولة لم تتدخل عبر جهاز تشجيع المنافسة ومنع الاحتكار ولا ضبطت الأسواق عبر هيئة السلع التموينية ولا طرحت سلعا فى جميع السوبر ماركت ومحال البقالة والمجمعات ولا قرأت شهور ذروة الاستهلاك ولا عرفت شهور نقص محصول الخضراوات ولا صبرت وتروت قبل أن تخلق إضرابا فى الأسواق دون مبرر فالتسعير لا تلجأ إليه إلا القليل من الدول الفقيرة فى أوقات أزمات الغذاء العالمية بينما نحن نعيش الآن أقل أسعار للغذاء عالميا، ولا معنى بأن تقوم الدولة بفرض تسعيره «استرشادية» وليست جبرية ثم تحاسب عليها المخالفين والقانون لا يسمح بذلك..فمن تخاطب إذن؟!.
* مستشار وزير التموين الأسبق