انسحاب الدولة.. كان هو العنوان البارز لتجربة السنوات الماضية التى تخلت فيها الدولة عن مسؤولياتها فى الإسكان والتعليم والصحة، وفهمت أن الاقتصاد الحر يعنى ترك القادرين يستحوذون على كل شىء، بينما الأغلبية تغرق فى فقرها.. والدولة تتفرج!!
حصاد هذه السياسة كان مريرا. تعليم عام منهار ومستشفيات بلا علاج، وملايين تعيش فى العشوائىات أو تسكن المقابر.. بينما القلة التى استحوذت على الثروة والنفوذ خلقت مؤسساتها الخاصة بها، وأصبحت لها مدارسها ومستشفياتها ومنتجعاتها السكنية، وأسواقها الخاصة التى توفر لها ما تريد وبأى سعر!!
الآن.. تدرك الدولة حجم الخسارة التى تحققت بانسحابها. وكيف أصبح العبء ثقيلا على الغالبية العظمى من المصريين التى تحملت كل شىء ودفعت ثمن السياسات الخاطئة التى اتبعتها الدولة على مدى سنين وفى جميع المجالات.
الآن.. تعود الدولة لتحمل مسؤولياتها. ربما يستحوذ رفع الأجور على الاهتمام، لكن الأخطر هو الجهد الذى بدأ لاستعادة دور الدولة فى كل المجالات. التركيز على الإسكان الشعبى مؤشر هام. والبدء فى إنشاء 50 ألف وحدة سكنية كمرحلة أولى من 200 ألف شقة مستهدفة هذا العام، وكل عام على مدى خمس سنوات، خطوة هامة على الطريق. البدء فى خطط شاملة لإصلاح التعليم والصحة أمر حيوى. دخول الدولة لضبط الأسواق مؤشر هام لسياسة اقتصادية جديدة لا تترك الحبل على الغارب، ولا تترك الفقراء ضحية لاستغلال بشع عانوا منه على مدى سنين كثيرة.
عودة الروح إلى الجمعيات الاستهلاكية ومضاعفة أعدادها فى الفترة القادمة سوف تسهم بلا شك فى ضبط الأسواق.
تنشيط الجمعيات التعاونية أمر مطلوب لمواجهة الغلاء الفاحش والاستغلال البشع لمحدودى الدخل، لكن الأهم أن تعود الدولة لاستيراد السلع الأساسية عن طريق الشركات العامة، لتقضى على إمبراطوريات الفساد التى لم تكتف بممارسة الاحتكار ورفع الأسعار، وإنما استخدمت الفساد بكل أنواعه للعبث بصحة المصريين.
إمبراطوريات الفساد استوردت للمصريين الأغذية المسرطنة واللحوم الفاسدة، والقمح بالحشرات، والشاى بنشارة الخشب. غيروا التاريخ لتدخل بضائع منتهية الصلاحية، واشتروا الذمم لتمر أغذية غير صالحة للاستخدام الآدمى.
عودة الدولة لاستيراد السلع الأساسية عن طريق الشركات العامة لا يسهم فقط فى تخفيض الأسعار وضبط الأسواق، ولكنها توقف هذه الجرائم التى عانينا منها على مدى سنوات أكلنا فيها زبالة البضائع التى استوردها بعض من فقدوا الضمير، وهم يعلمون أن نتيجة ما يفعلون هى الكارثة الصحية التى جعلت الفقراء نهبا لكل الأمراض المستعصية.
أيضا.. عودة الدولة لاستيراد السلع الأساسية سوف توقف ما شهدناه من إضرار بالمصلحة العامة على أيدى بعض الكبار فى مافيا الاستيراد، كما حدث لأكثر من مرة فى إفساد صفقات استيراد اللحوم من إثيوبيا، لأنه يتعارض مع مصالح مافيا اللحوم، حتى وإن كان يبنى علاقات اقتصادية هامة ومطلوبة مع شركاء فى مياه النيل!!
أتوقع ضغوطًا هائلة لقطع الطريق على هذه الخطوة الهامة. مافيا الاستيراد لن تسكت على ضياع الثروات الطائلة التى تأتيها بلا جهد إلا جهد الفساد والإفساد.. أرجو أن لا تتراجع الدولة عن استكمال هذه الخطوة الهامة. عودة الدولة هنا مؤشر لعودتها فى كل المجالات. كان الدرس مؤلما عندما انسحبت الدولة.
القادرون بنوا دولتهم الخاصة بمدارسها ومستشفياتها وقصورها ومنتجعاتها. الفقراء دفعوا الثمن مضاعفا.. مرة بما عانوه فى ظل سياسات اقتصادية واجتماعية لا تعرف العدل ولا توفر الحدود الدنيا.
ومرة أخرى حين يتم استغلال ظروفهم من قبل تجار السياسة أو تجار الدين!!
عودة الدولة قد تبدأ -فى هذه الظروف- من الأمن، ولكنها لا بد أن تنتهى برغيف الخبز ومقعد المدرسة وسرير المستشفى، وبمشاعر الكرامة بديلاً للهوان.. أليس هذا هو الدرس الذى تركه لنا عبد الناصر الذى ما زال حاضرا فى قلوب الملايين بعد كل هذه الأعوام من الرحيل، وكل هذه الحملات والحروب التى لم تهدأ والتى ذهب أصحابها إلى مزبلة التاريخ، وبقى ناصر.. حبيب الفقراء.